تواضعه (صلى الله عليه وآله):
قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[1].
قال شيخنا الطبرسي في تفسيره: (وفي هذه الآية دلالة على تخصيص نبينا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره أنَّه كان أجمع النَّاس لدواعي الترفع، ثم كان أدناهم إلى التواضع، وذلك أنَّه (صلى الله عليه وآله) كان أوسط النَّاس نسباً ،وأوفرهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلّها من دواعي الترفّع، ثم كان من تواضعه أنَّه كان يرقّع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح ،ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من غير زأر ولا كهر[2] ولا زجر، ولقد أحسن من مدحه في قوله:
فما حَملتْ من ناقة فوقَ ظهرها أبرّ وأوحـى ذمةً منْ محمد[3]
والتواضع هو: (الرضى بأن تجلس من المجلس بدون شرفك، وأن تسلِّم على مَن لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقَّاً)[4]، وهو أيضاً: لين الجانب للصغير والكبير، وخفض الجناح للمسيء والمقصّر، كما قال الله تعالى:
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[5].
وإنَّ التواضع يكسب صاحبه السلامة، ويُورث الألفة، ويرفع الحقّ، وللتواضع ثمار كثيرة منها المحبة، ومنها أنَّه يزيد شرف الشريف، كما أن التكبّر يزيد في ضعته، فقد روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: (من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبَّر وضعه الله)[6]، ويقول (صلى الله عليه وآله): (التواضع لا يزيد العبد إلا رفعةً، فتواضعوا يرفعكم الله)[7].
ولقد أحسن من قال:
ولا تَمْشِ فوق الأرض إلا تواضعًا فكم تحتها قومٌ هـمُ منك أرفــعُ
فإن كنت في عـِزٍّ وخـيرٍ ومنعـــةٍ فكم مات مِنْ قومٍ همُ منكَ أمنعُ[8]
إن التواضع عند الرسول(صلى الله عليه وآله) قد استُمد من التوجيه القرآني العظيم، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[9].
ومن تواضعه أنَّه أمر أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخها، وقال آخر: عليَّ قطعها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليَّ أن ألقط لكم الحطب، فقالوا: يا رسول الله لا تتعبنَّ بآبائنا وأمهاتنا أنت، نحن نكفيك، قال: عرفت أنَّكم تكفوني، ولكن الله عزَّ وجلَّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم، فقام يلقط الحطب لهم)[10]
وقد كان (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله)[11].
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفا، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان، لتكون سُنّةً من بعدي)[12].
ولما كان نبينا (صلى الله عليه وآله)أشد النَّاس تواضعاً رفعه الله رفعةً لا يدانيه أحد في الرفعة، كما قال تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[13]، ولهذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يحذر من الكبر أيَّما تحذير، فيقول لأبي ذر : (يا أبا ذر من مات وفي قلبه مثقال ذرةٍ من كبر لم يجد رائحة الجنَّة، إلا أن يتوب قبل ذلك)[14]، وهو مصداق قوله تعالى:
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[15].
[1] سورة آل عمران: آية 159.
[2] زأَرَ زأراً: صاح وغضب، كهرَ كهراً: استقبله بوجه عابس.
[3] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج16، ص199.
[4] الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لعبد الحليم الجندي: ص333.
[5] سورة الحجر: آية 88.
[6] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص46.
[7] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص121.
[8] فتح القدير للشوكاني: ص228.
[9] سورة لقمان: آية 18.
[10] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج73، ص273.
[11] تفسير القرطبي: ج5، ص237.
[12] الأمالي للشيخ الصدوق: ص130.
[13] سورة الشرح: آية 4.
[14] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج74، ص90.
[15] سورة القصص: آية 38.