قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[1].
من الصفات التي يتحلَّى بها الرسول (صلى الله عليه وآله) صفة الرحمة، فقد وهبه الله قلباً رحيماً، يرقُّ للضعيف، ويحنُّ على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، حتى صارت الرحمة سجيّةً له، فاستحق بذلك الثناء من قبل الله في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[2].
وفي وصفه ووصف أصحابه يقول الباري تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[3]، وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[4].
لقد شملت رحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، والخدم والأرقاء، والطير والدواب، فمن شواهد رحمته بالصغار روي: كان النبي(صلى الله عليه وآله) يقبَّل الحسن(عليه السلام) فقال الأقرع ابن حابس: إنَّ لي عشرة من الولد ما قَبَّلتُ أحداً منهم، فقال (صلى الله عليه وآله): (من لا يَرحم لا يُرحم)[5].
ومن شواهد رحمته بالخدم، عن المعذور بن سويد دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا لو أخذت برد غلامك إلى بردك كانت حلة وكسوته ثوبا غيره، قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فان كلفه ما يغلبه فليعّنه)[6].
وعن أنس قال: (خدمت رسول الله عشر سنين لا والله ما سبَّني سبَّة قط، ولا قال لي أفّ قطّ، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته) [7].
ومن شواهد رحمته بالنّساء، قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (ألا واستوصوا بالنّساء خيراً، فإنَّما هنَّ عوان ـ أي: أسيرات ـ عندكم، ليس تملكون منهنَّ شيئاً غير ذلك)[8]، وعن أَبي قَتادَةَ الحارِثَ بن رِبْعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِنِّي لأَقُومُ إلى الصَّلاةِ، وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها، فَأَسْمعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّز فِي صلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)[9].
ومن شواهد رحمته بالطيور والبهائم، عن عبد الله، عن أبيه قال: (كنَّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمرة ـ طائر يشبه العصفور ـ معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تُعرش ـ أي: ترتفع وتظلل بجناحيها على من تحتها ـ فلما جاء، قال(صلى الله عليه وآله): من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها)[10].
وعن سهيل بن الحنظلية قال: (مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة ـ أي: التي لا تنطق ـ فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة)[11].
ومن شواهد رحمته (صلى الله عليه وآله) بأعدائه موقفه العظيم يوم فتح مكة عندما مكّنه الله تعالى من قريش، فأطلق الرسول (صلى الله عليه وآله) كلمته الخالدة: (اليوم يوم المرحمة)[12]، وكان محقّاً فيما قاله فقد أعلن عفوه العام عن قريش التي لم تدّخر وسعاً في إلحاق الأذى به وبالمسلمين، وكان ذلك تفضّلاً منه ورحمةً.
[1] سورة الأنبياء: آية 107.
[2] سورة الأنبياء: آية 107.
[3] سورة الفتح: آية 29.
[4] سورة التوبة: آية 128.
[5] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج43، ص295.
[6] بحار الأنوار للعلامة المجلسي:ج43،ص142.
[7] كنز العمال للمتقي الهندي: ج7، ص208.
[8] كنز العمال للمتقي الهندي: ج5، ص116.
[9] صحيح البخاري: ج1، ص173.
[10] رياض الصالحين للنووي: ص635.
[11] كنز العمال للمتقي الهندي: ج9، ص62.
[12] كنز العمال للمتقي الهندي: ج9، ص62.