قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[1].
العدالة: (وهي لغة: الاستقامة، وشرعاً: كيفية راسخة في النفس، تبعث على ملازمة التقوى والمروءة، وتتحقق التقوى: بمجانبة الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر)[2]، والعدالة بخلاف الظلم، الذي هو(وضع الشيء في غير موضعه، كذا في مجمع البيان، أو التعدّي عن حدود الله، كما يفهم من قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[3]، إذ لا شك أنَّ فعل الصغير خروج عن الاستقامة والطاعة، وأنَّه نقص ووضع في غير المحل، وتعد عن الحدود، إذ حدود الله هي الأوامر والنواهي) [4].
لقد جاءت الدعوة إلى الاستقامة في مواطن عديدة من القرآن الكريم، منها ما هو مباشر للنبي(صلى الله عليه وآله) كما في قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[5]، ومنها غير المباشر، كالذي يخاطب به الله تبارك وتعالى المؤمنين ويعدهم بالأمن والطمأنينة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[6].
وكذلك أمر القرآن الكريم بالعدل، فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[7].
وقد حضَّ النبي (صلى الله عليه وآله) على العدل والمساواة في أحاديث كثيرة، بعد ضرب المثل والقدوة للنَّاس عملياً فقد قال (صلى الله عليه وآله): (ما منْ عبد يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجَّنة)[8].
وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعدل ويتحرَّى العدل بين زوجاته ثم يعتذر إلى ربِّه وهو مشفق خائف فيقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)[9].
وروي عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): قال: (قلت: يا رسول الله أوصني، قال: قل ربِّي الله ثمَّ استقم، قال: قلت: ربِّي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)[10]، وأخرج ابن ماجه في السنن: أنَّ سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدّثني بأمر أعتصم به؟ قال: (قل ربِّي الله ثمَّ استقم) [11].
وهذه الاستقامة لا تتحقق إلا بتقوى الله وخشيته، والتعرّف على أحكامه والإحاطة بتعاليمه، والامتثال لأوامره، والتخلّق بأخلاق القرآن، وهو ما اتصف به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فقد كان من عدله واستقامته، بحيث لم يهمل جانباً من دعوته على حساب جانب، ولم تمل به الأهواء ذات اليمين وذات الشمال، بالرغم من الصعوبات التي واجهته والعروض المغرية التي عُرضت عليه، فلقد تحمَّل من أجل ذلك مختلف المتاعب والآلام كما قال: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)[12]، ولقد بلغ من همَّته العظيمة لتحقيق هدفه السامي أنَّه قال: (...لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته)[13].
إنَّ استقامة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسيرته تشهد على أنَّه ينطق عن الوحي، ومؤيد بالغيب، ومؤهل لحمل الرسالة الخالدة، هذه الاستقامة التي يبشر الله بها عباده بقوله تعالى: (إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[14].
[1] سورة هود: آية 112.
[2] جامع المقاصد للمحقق الكركي: ج2، ص372.
[3] سورة الطلاق: آية 1.
[4] زبدة البيان للمحقق الاردبيلي: ص48.
[5] سورة هود: آية 112.
[6] سورة الأحقاف: آية 13.
[7] سورة المائدة: آية 8.
[8] كنز العمال للمتقي الهندي: ج6، ص 25.
[9] عوالي اللئالئ ابن أبي جمهور الأحسائي: ج2، ص134.
[10]بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج40، ص175.
[11]ميزان الحكمة محمد الريشهري: ج1، (هامش ) ص758.
[12]بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج39، ص56.
[13]الغدير لشيخ الأميني: ج7، ص359.
[14]سورة فصلت: آية 30.