قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[1].
وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[2].
لقد كانت قريش تعرف الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل أن يتنزَّل عليه الوحي بـالصادق الأمين، حيث كان الصدق والأمانة من الصفات البارزة له في الجاهلية، وهو ما عرف به أيضاً بعد نزول الرسالة وظهور الإسلام، هذا على مستوى الفعل، وهو أيضاً ما عرف منه على مستوى القول فقد كان(صلى الله عليه وآله) يقول: (عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر،وإن البر يهدي إلى الجنَّة..[3])، فهو(صلى الله عليه وآله) يحكي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[4] وقوله تعالى: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ)[5].
وفي مورد نزول قوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)[6] ما يدل على ذلك أيضا، فقد قال مقاتل: (نزلت في أبي جهل، وذلك أنَّه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال أبو جهل: والله إنّي لأعلم أنَّه لصادق! فقال له مه! وما دلَّك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنَّا نسمّيه في صباه الصادق الأمين، فلمَّا تمَّ عقله وكمل رشده، نسمِّيه الكذاب الخائن!! والله إنّي لأعلم أنَّه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عنّي بنات قريش أنّي قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبداً، فنزلت : (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ))[7].
أما سيد البطحاء أبو طالب(عليه السلام) فهو يذكر بعض شمائل الرسول(صلى الله عليه وآله) ويصفه بالصادق الأمين، فعن عروة الثقفي قال: سمعت أبا طالب يقول: (حدثني ابن أخي الصادق الأمين وكان والله صدوقاً: إنَّ ربَّه أرسله بصلة الأرحام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة)[8]، وعن فاطمة الزهراء (عليها السلام): أنَّها قالت: (أنا ابنة الصادق الأمين)[9]، وفي الزيارة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) جاء: (السلام على كافة الأنبياء والمرسلين، السلام على حجج الله على العالمين، السلام على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، السلام على الرسول الصادق الأمين..) [10].
لقد أظهر نبينا الكريم(صلى الله عليه وآله) من الصدق والأمانة في العبودية لله والتعامل مع عباده، ما لا يظهره سواه من العباد حتّى لُقب بالصادق الأمين، هكذا هي سيرته منذ ولادته، وبعد أن بزغ نور الحقِّ، ولما علمت قريش بما ينوي النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أن يفعله من نشرٍ لدينه الجديد عملت على عداوته أشدّ عداوة، إلا أنَّ ذلك لم يثنهم على أن يجعلوا أموالهم وأحمالهم أمانةً عنده، ولا غرابة في ذلك فلا يوجد من هو أمينٌ مثل النبي محمد(صلى الله عليه وآله).
ولقد أشار جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) إلى صدق الرسول(صلى الله عليه وآله) وأمانته، وأثر ذلك على الدعوة الإسلامية بقوله: (بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته وعفافه..)[11]، حتى لقد لُقّب بـالصادق الأمين فقد كان لذلك أثر كبير في ظهور دعوته، وانتصار وانتشار رسالته، وقد كان تحلّيه بهذه المواصفات ضرورياً، لأنَّ فقدانها موجب لريبهم، كما قال تعالى: (إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)[12]، هذا كلّه، بالإضافة إلى ما قد مدحه الله عليه من خلقه العظيم، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[13].
إنَّ أبرز الشواهد على أمانة الرسول (صلى الله عليه وآله)، نهوضه بتبليغ الرسالة التي ائتمنه الله عليها وكلّفه أن يقوم بها، حيث بلَّغها للنَّاس أعظم ما يكون التبليغ، وقام بأدائها أعظم ما يكون القيام، واحتمل في سبيلها أشقّ ما يحتمله بشر.
لقد كانت قريش بالرغم من معاداتها للرسول (صلى الله عليه وآله)، تحتفظ بأماناتها عنده، لأنَّها كانت تثق فيه ولم تعهد عليه أيّ شائبة، وهذا ما يمكن أن ندركه من خلال هذه الحادثة: (فلقد توجّه الرسول(صلى الله عليه وآله) يوماً إلى نحو الكعبة وأهل مكة حولها، وكان قد عمروا فيها عمارة، وشالوا الحجر الأسود من مكانه، فلمّا عزموا أن يردّوه إلى مكانه الأول اختلفوا فيمن يرده، فكان كل منهم يقول: أنا أردَّه، يريد الفخر لنفسه، فقال لهم ابن المغيرة: يا قوم حكّموا في أمركم من يدخل من هذا الباب، وأجمعوا على ذلك، وإذا بالنبي(صلى الله عليه وآله) قد أقبل عليهم، فقالوا: هذا محمد، نعم الصادق الأمين، ذو الشرف الأصيل، ثم نادوه فأقبل عليهم، فقالوا: قد حكّمناك في أمرنا، مَن يحمل الحجر الأسود إلى محله؟ فقال: هذه فتنة، إيتوني بثوب، فأتوه به، فقال: ضعوا الحجر فوقه، وارفعوه من كل طرف قبيلة، فرفعوه إلى مكانه، والنبي(صلى الله عليه وآله) هو الذي وضعه في مكانه، فتعجبت القبائل من فعله[14].(
وتتجلى أمانة الرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً عندما أراد الخروج من مكة، فقد روي (أنَّه لما أراد الهجرة كانت عنده ودائع أودعها أم أيمن وأمر أمير المؤمنين عليا(عليه السلام)
بردّها على مستحقها)[15]، كيف لا يكون الرسول (صلى الله عليه وآله) كذلك، وهو الصادق الأمين الذي يصدح بقوله: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك)[16].
[1] سورة الأحزاب: آية 22.
[2] سورة النساء: آية 58.
[3] ميزان الحكمة لمحمد الريشهري: ج2، ص1578.
[4] سورة التوبة: آية 119.
[5] سورة الأحزاب: آية 35.
[6] سورة الجاثية: آية 23.
[7] تفسير القرطبي: ج16، ص170.
[8] الغدير للشيخ الأميني: ج7، ص368.
[9] مستدرك سفينة البحارعلي الشهارودي: ج8، ص147.
[10] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج99، ص199.
[11] دلائل الأمامة للطبري:ص12.
[12] سورة العنكبوت: آية 48.
[13] الصحيح من سيرة النبي لجعفر العاملي: ج2، ص212.
[14] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج15، ص382- 383.
[15] المهذب للقاضي ابن البراج: ج1، ص422.
[16] المهذب للقاضي ابن البراج: ج1، ص422.