عفوه (صلى الله عليه وآله)

أما العفو عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو من الوضوح بحيث لا يخفى على من له أدنى معرفة بسيرته، فقد عفى عن أشد المعاندين له وهو أبو سفيان وأمثاله، حينما فتح مكة، فقال لهم: (ألا بئس جيران النَّبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم، ثمَّ ما رضيتم حتَّى جئتموني في بلادي تقاتلوني.. فاذهبوا فأنتم الطلقاء)[1].

فهذه كلمات سجَّلها التاريخ لأكرم الخلق، فهو يقول لأولئك الذين آذوه وضربوه وطردوه: إذهبوا فأنتم الطلقاء، ليعطينا درساً عملياً في كيفية السيطرة على غضب النفس، والعفو عند المقدرة، والعاقبة الحسنة لهذا العفو، وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)[2].

فما أجمل الحلم والعفو الذي يتبلور حينما يأتي أحدهم فيقوم بسبِّ الآخر، ثم يقابله ذلك الآخر ببشاشةِ وَجْهٍ وحلمٍ، وهدوء نفس، فلو فعل ذلك سوف يرجع ذلك المخطئ بإحدى اثنتين: إما إلى رشده فيعترف بخطئه فيعتذر، وإما يموت كمداً، كما قال الشاعر.

إذا نطقَ السفــيهُ فلا تُجِبْــهُ                 فخيرٌ من إجابته السكوتُ

فإن أجبتَه فرّجْــتَ عنـه                      وإن تركتَـه كَمَـداً يمـوت

قال صاحب الكشَّاف في تفسير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[3]،  (العفو: ضد الجهد، كأنَّه هو المشقة، فالعفو هو السُّهولة، أي: خذ يا محمد ما عفا لك من أفعال النَّاس وأخلاقهم، وما أتى منهم وتسهل من غير كُلفة)[4].

وهذا دليل على أنَّ العامل الرئيس في الأخلاق هو السجية والطبع، دون اللجوء إلى التكلُّف والمشقة، وهذا لا يمنع من وجوب حثّ النفس ومطالبتها بالتعوُّد على المكارم، لأنَّ هذا يعد كذلك من العوامل التي تغرس جذور الأخلاق في النفس الإنسانية. كما تقدم من قول الرسول (صلى الله عليه وآله):
(إنَّما العلم بالتعلُّم، وإنَّما الحلم بالتحلُّم)[5].

وقال (صلى الله عليه وآله): (من يتصبر يصبّره الله، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله)[6].

 


[1] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج21، ص 106.

[2] منية المريد للشهيد الثاني: ص193.

[3] سورة الأعراف: آية 199.

[4] زبدة البيان للمحقق الأردبيلي: ص439.

[5] مجمع الزوائد للهيثمي: ج1، ص128.

[6] ميزان الحكمة لمحمد الريشهري: ج2، ص1564.