الأول لا شيء قبله

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، الأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَه والآخِرُ لَا غَايَةَ لَه،  لَا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَه عَلَى صِفَةٍ، ولَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْه عَلَى كَيْفِيَّةٍ، ولَا تَنَالُه التَّجْزِئَةُ والتَّبْعِيضُ، ولَا تُحِيطُ بِه الأَبْصَارُ والْقُلُوبُ، فَاتَّعِظُوا عِبَادَ الله بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ واعْتَبِرُوا بِالآيِ السَّوَاطِعِ وازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ وانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ والْمَوَاعِظِ فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ  وانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الأُمْنِيَّةِ ودَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الأُمُورِ والسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ) سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا».

هذا الفصل من كلام الإمام(عليه السلام) يشتمل جزء منه على إثبات ثماني صفات من صفات الجلال وهي:

الأولى: الوحدانيّة مؤكَّدة بنفي الشركاء، وذلك بقوله(عليه السلام): (لَا شَرِيكَ لَه)، ولمّا لم تكن هذه المسألة ممّا يتوقّف عليها إثبات النبوّة جاز الاستدلال فيها بالسمع كقوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا)[1].

وقوله تعالى أيضاً: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم)[2].

الثانية: إثبات كونه أوّلاً غير مسبوق بالغير، في قوله (عليه السلام): «الأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَه».

الثالثة: إثبات كونه آخراً غير منتهٍ وجوده إلى غاية يقف عندها في قوله (عليه السلام): «والآخِرُ لَا غَايَةَ لَه»، والاستقصاء ومنتهى قبليّة شيء له والغاية عنه تأكيدان لذلك.

الرابعة: سلب أن لا تلحقه الأوهام فيقع منها على صفةٍ، وهو صريح في قوله (عليه السلام): «لَا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَه عَلَى صِفَةٍ».

 ونحن نعلم أنّ الأوهام لا يصدق حكمها إلَّا فيما كان متعلّقاً بمحسوس كالمادة، فأمّا الأمور المجرّدة من علائق المادّة فالوهم ينكر وجودها أصلاً فضلاً أن يصدّق في إثبات صفة لها، وإنّما الحاكم بإثبات صفة له سبحانه هو العقل الصرف، وتعلم أنّ ما يثبته العقل منها ـ الصفات ـ ليست حقيقة خارجيّة بل أمور اعتباريّة منشأها العقل عند مقايسته إلى الغير، ولا يُفهم من هذا أنّه أثبت له صفة، بل معناه أنّ الأوهام لا يصدق حكمها في وصفه تعالى.

الخامسة: إنّ الله تعالى لا تعقل له أو تتصور كيفيّة يكون عليها، وهذا ما دل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْه عَلَى كَيْفِيَّةٍ»

  وبيان ذلك يكون في توضيح معنى الكيفيّة فنقول فيها: إنّها عبارة عن هيئة مستقرة في المحلّ ولا يوجب اعتبار وجودها قسمة ولا نسبة، ولمّا بيّنا أنّه تعالى ليس له صفة تزيد على ذاته وهي محلّ لها، فبالتالي استحال أن تعقد القلوب منه على كيفيّة.

السادسة: كونه تعالى لا يتجزّأ ولا يتبعّض، وهذا ما قاله (عليه السلام): «ولَا تَنَالُه التَّجْزِئَةُ والتَّبْعِيضُ»، وهو إشارة إلى نفي الكميّة عنه إذ كما هو معروف أنّ التجزئة والتبعيض من لواحقها، وقد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم، والباري تعالى ليس بجسم وليس بكمّ، فعليه هو ليس بقابل للتبعيض والتجزئة، ولأنّ كلّ قابل لهما منفعل عن غيره، والمنفعل عن الغير ممكنٌ.

السابعة: عدم إحاطة الأبصار به سبحانه وتعالى، لقول الإمام (عليه السلام): «ولَا تُحِيطُ بِه الأَبْصَارُ»، وهو قول الله (عزّ وجلّ) (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ) وهذه المسألة ممّا اختلف فيها علماء الإسلام.

  وخلاصة الكلام فيها: إنّ الُمدرك بحاسّة البصر بالذّات إنّما هو الألوان والأضواء وبالعرض المتلوّن والمضيء ولمّا كان اللون والضوء من خواصّ الجسم وكان تعالى منزّها عن الجسميّة ولواحقها وجب كونه منزّها عن الإدراك بحاسّة البصر.

الثامنة: عدم إحاطة القلوب به تعالى، فالمراد منه قول الإمام (عليه السلام): «ولَا تُحِيطُ بِه.. والْقُلُوبُ»، والمراد أنّ العقول البشريّة قاصرة عن الإحاطة بكنه ذاته المقدّسة.

وأمّا توضيح الجزء الثاني من كلام الإمام(عليه السلام)يبتدأ بقوله: «فَاتَّعِظُوا عِبَادَ الله بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ». الأمر بالاتّعاظ بالعبر النوافع واسم العبرة حقيقة في الاعتبار، وقد يطلق مجازاً فيما يعتبر به، وأمّا ثمرته فالانزجار عن مناهي الله تعالى وإجابة داعيه والانقياد لسلوك سبيله.

  قوله(عليه السلام): «واعْتَبِرُوا بِالآيِ السَّوَاطِعِ»، الأمر بالاعتبار بالآي السواطع معطوف على ما سبق وهو الاتّعاظ بالعبر النوافع، وأراد بالآي: آيات آثار الله وعجائب مصنوعاته أو حتى آيات القرآن المُعذرة والمُنذرة، واستعار لها لفظ السطوع لوجه المشابهة كإشراق نور الصبح وسطوعه.

قوله(عليه السلام): «وازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ»، وازدجروا هو أمر يفيد فائدة الاتّعاظ والنذر وهي زواجر الله ووعوده البالغة حدّ الكمال في التخويف.

قوله(عليه السلام): «وانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ والْمَوَاعِظِ»، تدل على الانتفاع بالذكر والمواعظ وهو أمر بتحصيل ثمرة الذكر والموعظة عنهما، وختم هذه الكلمة بالأمر بذكر الانتفاع ترغيباً وجذباً للنفوس إلى الذكر وقبول المواعظ[3].

مجلة اليقين، العدد (69)


[1] الأنبياء: آية 22.

[2] البقرة: آية 163.

[3] ينظر: نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): تحقيق صبحي صالح، ص115، شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج2، ص277.