قال سيد الأوصياء أمير المؤمنين(عليه السلام): «ونَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِه يُبْصِرُ أَمَدَه، ويَعْرِفُ غَوْرَه ونَجْدَه، دَاعٍ دَعَا ورَاعٍ رَعَى، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي واتَّبِعُوا الرَّاعِيَ قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ، وأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ ونَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، نَحْنُ الشِّعَارُ والأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ والأَبْوَابُ، ولَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً منها، فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ وهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ، إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا، فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَه ولْيُحْضِرْ عَقْلَه، ولْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، فَإِنَّه مِنْهَا قَدِمَ وإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ».
قوله (عليه السلام): (ونَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِه يُبْصِرُ أَمَدَه). أي: الناظر بعين البصيرة يبصر بها طريقه وغايته الَّتي هو متوجّه إليها وهي أمده وغايته.
قوله (عليه السلام): (ويَعْرِفُ غَوْرَه ونَجْدَه). ويقصد بغوره ونجده: منخفضه ومرتفعه، والمعنى طريقاه للخير والشرّ وهما النجدان في قوله تعالى: (وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). وعبارة القرآن المجيد أخص، وهذه العبارة أنسب إلى المعنى فإنّ الغور هو المنخفض ويعبّر به عن رتبة النازلين في دركات الجحيم قياسا للنجد وما فيه من سمو.
قوله(عليه السلام): (دَاعٍ دَعَا ورَاعٍ رَعَى فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي واتَّبِعُوا الرَّاعِيَ). وأشار أمير المؤمنين (عليه السلام)
بالداعي إلى رسول(صلى الله عليه وآله) وما جاء به من القرآن الكريم والسنّة، والراعي هو الامام نفسه(عليه السلام)، والأمر بالاستجابة ظاهره وجوب الاستجابة لله ورسوله(صلى الله عليه وآله) لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)[1]. فيجب اتّباع من أوجبا اتّباعه.
قوله (عليه السلام): (قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ). يحتمل أن يكون التفاتاً إلى صفة قوم معهودين للسامعين، كمعاوية وأصحاب الجمل والخوارج، ويحتمل أن يكون منقطعاً عمّا قبله متّصلاً بكلام لم يحكه الإمام (عليه السلام) وإليه ذهب بعض الشارحين في ذكر بعضهم لقوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمّهم وعيبهم.
ولفظ البحار مستعار لما عظم من الفتن والحروب، وقد عرفت وجه الاستعارة، ورشّح بذكر الخوض.
والبدعة قد يراد بها ترك السنّة، وقد يراد بها ما يحرّف بها السنّة وإدخال فيها ما ليس منها، وهو الأرجح في العرف.
قوله (عليه السلام): (وأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ، ونَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ). ويقصد بأرز المؤمنون: أي: انقبضوا وانجمعوا، وتخلّفوا، بعكس الضالين المكذّبين، فقد تصدّروا وتقدّموا.
قوله (عليه السلام): (نَحْنُ الشِّعَارُ والأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ والأَبْوَابُ). ذكر الإمام (عليه السلام) فضيلته فاستعار لفظ الشّعار لنفسه وأهل بيته، ووجه المشابهة ملازمتهم للرسول(صلى الله عليه وآله) واختصاصهم به كما يلزم الشعار الجسد، ثمّ ذكر كونهم أصحابا له، وخزنة علمه كما نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله) أنّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) هو خازن علمي، وفي رواية عيبة علمي، وقيل: خزنة الجنّة على معنى أنّ من جاء يوم القيامة بولايتهم دخل الجنّة وإلَّا فلا.
وقوله (عليه السلام): (ولَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً منها). إنّ إتيان البيوت لا يكون إلّا من أبوابها، وذلك لوجه العرف.
قوله (عليه السلام): (فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ وهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا).
الإشارة إلى فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومنها:
أولاً: فيهم كرائم القرآن، أي: نفائسه المستلزمة لأشديّة القرب من الله تعالى، كالأخلاق الفاضلة والاعتقادات الحقّة المطابقة لما عليه الأمر نفسه.
ثانياً: هم كنوز الرحمن، أي: خزائن علمه وسائر ما أمر به من مكارم الأخلاق.
ثالثاً: ملازمة منطقهم للصدق، واختصاصهم بالحكمة.
قوله (عليه السلام): (فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَه ولْيُحْضِرْ عَقْلَه)، وأشار به إلى مَن يحضرنا طلباً لاختيارنا فليصدق مَن يعينه أمره، إنّنا أهل الحقّ وينابيع العلوم والحكمة، والأدلَّاء إلى الله كما يُصدّق الرائد أي: المتقدّم لطلب الكلأ والماء مبشراً أهله بهما، وأمّا ليحضر عقله ليعي ما يقوله ليُعرف صحّة ما ادّعيناه.
قوله (عليه السلام): (ولْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، فَإِنَّه مِنْهَا قَدِمَ وإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ). ثمّ شرع (عليه السلام) على التنبيه على أحوال الآخرة، وأن يكون العاقل من أبنائها، ووجه استعارة كلامه من قوله: فإنّه منها قدم وإليها ينقلب، أي: كما أنّ الابن ينقلب عن الأُمّ وإليها رجوعه وَوَلَهه، كذلك الإنسان مبدؤه الحضرة الإلهيّة ورجوعه وانقلابه إليها، فينبغي للكيّس الفطن العمل لها ـ للآخرة ـ والوله والفوز بها[2].
مجلة اليقين، العدد (68)