لم يُطلع العقول على تحديد صفته

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِه، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِه، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَه أَعْلَامُ الْوُجُودِ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُه الْمُشَبِّهُونَ بِه، والْجَاحِدُونَ لَه، عُلُوّاً كَبِيراً».

ولا بد من توضيح كلام الإمام (عليه السلام) فيما يأتي ولو بنزر يسير من الشرح:

أولا: قوله (عليه السلام): «لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِه». ويفهم من صفته معنيان:

أ ـ شرح حقيقة ذاته.

ب ـ شرح صفات الكمال المطلق.

الظاهر أنّ العقول لم تطَّلع على حصر صفة الله تعالى وتحديدها بالمعنى الأوّل إذ لا حدّ لحقيقته، ولا بالمعنى الثاني أيضا إذ ليس لما يعتبره العقول من كماله سبحانه نهاية يقف عندها فتكون حدّا وتعريفا له.

ثانيا: (ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِه). فلأنّه تعالى وهب لكلّ نفس قسطا من معرفته هو الواجب لها بحسب استعدادها لقبوله.

ثالثا: (فَهُوَ الذِي تَشْهَدُ لَه أَعْلَامُ الْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ). يقصد بالأعلام: جمع علم، وهو المنار يهتدى به، ثم جعل لكل ما دل على شيء، فقيل عن معجزات الأنبياء اعلام؛ لدلالتها على نبوتهم، وهي الادلة الظاهرة الواضحة.

ويقصد من قوله (عليه السلام): (أَعْلَامُ الْوُجُودِ). أي الادلة الموجودة، والدلالة عن الوجود نفسه.

وفيه أن الجاحد لله سبحانه وتعالى مكابر بلسانه ومثبت له بقلبه، كما عبّر الامام (عليه السلام): (.. إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ).

رابعاً: قوله (عليه السلام): (تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُه الْمُشَبِّهُونَ بِه والْجَاحِدُونَ لَه عُلُوّاً كَبِيراً).

الظاهر من كلام الإمام (عليه السلام) أن نفوس الجاحدين بالله عز وجل معترفة أيضا بوجوده بدليل شهادة اعلام وآيات صنعه، وهي دليل على أن نفس كلّ جاحد متيقنة بصدورها عنه سبحانه.

بحيث تحكم الحاجة لما يشاهده الجاحد من تلك الآيات إلى صانع حكيم فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب كلّ من جحده بأنّ جحده له إنّما هو رأي اتّبع الجاحد فيه وَهْمَه مع إقرار قلبه بالتصديق به بشواهد الآثار على صحّة ذلك.

وأما من جحد بالله جَحْد تشبيه فقد شبّه الله بخلقه وإن اختلف بعضهم عن البعض الآخر في كيفيّة التشبيه فهم بأسرهم جاحدون له في الحقيقة، وذلك أنّ المعنى الذي يتصوّرونه ويبتّونه إلها لهم ليس هو نفس الإله لأنّهم ينفون ما سوى الذي يؤمنون به ويتصورونه، فكانوا نافين للإله الحقّ في المعنى الذي يتصوّرونه.

  وأمّا البعض الآخر من الجاحدين فرؤيتهم عكس ما تقدم إذ كانوا جاحدين بالله تعالى صريحا من الجهة التي تثبته العقلاء بها، ومقرّون به التزاما واضطرارا، ولذلك نزّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الله سبحانه وتعالى عن رأي واحوال الفريقين فقال: (تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُه الْمُشَبِّهُونَ بِه، والْجَاحِدُونَ لَه عُلُوّاً كَبِيراً).

وبالجملة فاتّفاق العقول على الشهادة بوجود الصانع سبحانه وتعالى أمر ظاهر وإن خالطتها غواشي الأوهام وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكانَ الإِنْسانُ كَفُوراً)[1].

وفي قوله تعالى إشارة أخرى:
(يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ...)[2].

المصدر: (نهج البلاغة خطب الإمام علي(عليه السلام) تحقيق صالح: ص88، وانظر: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج2، ص133).

مجلة اليقين، العدد (67)


[1] الاسراء: آية 67.

[2] يونس: آية 22.