قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأَمُوُرِ، ودَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ، وامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ، فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ، ولَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ، سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ، وقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، ولَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ».
إن في هذا الفصل مباحث جليلة من العلم الإلهيّ، وجملة من صفات الربوبيّة، نستعرضها للقارىء الكريم منها:
أولاً: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأَمُوُر». يفهم من قول الإمام (عليه السلام) كونه تعالى بطن خفيّات الأمور بمعنيين:
1ـ داخل في جملة الأمور الخفيّة لما كانت بواطن الأمور الخفيّة أخفى من ظواهرها كان أخفى عند العقول من الظواهر، وبرهانه أنّ الإدراك إمّا حسىّ أو عقليّ، ولمّا كان الباري تعالى مقدّسا عن الجسميّة منزّها عن الوضع والجهة استحال أن يدركه شيء من الحواسّ الظاهرة والباطنة، ولمّا كانت ذاته بعيدة عن أنحاء التركيب استحال أن يكون للعقل اطَّلاع عليها بالكنه.
2ـ أن يكون المعنى أنّه نفذ علمه في بواطن خفيّات الأمور، فهو عالم الخفيّات والسرائر.
ثانياً: قوله(عليه السلام): «ودَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ». أي: دلت آياته وآثاره في العالم، وهي الدالَّة على وجوده الظاهر كقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[1].
ويكون الاستدلال بما تقدم عن طريق توارد الأجسام والأعراض أولاً، ثمّ يستدل بحدوثها وتغيّراتها على وجود الخالق سبحانه وتعالى علوا كبيراً.
ثالثاً: قوله(عليه السلام): «وامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ». كونه ممتنعاً سبحانه على عين البصير: أي: لا يصحّ أن يدرك بحاسّة البصر، فهذا السلب عن الباري ظاهر بدليل أنه ليس بجسم وغير ذي وضع، وكل ما كان كذلك يمتنع رؤيته بحاسّة البصر فينتج أنّه تعالى ممتنع الرؤية بحاسّة البصر، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ...)[2].
رابعاً: قوله(عليه السلام): «فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ». أي: إنّه سبحانه مع كون الباصر لا يدركه بحاسّة بصره كذلك لا ينكره من جهة أنّه لا يبصره، فما يدرك بها صحّ إدراكه، فلا ينفى وجود ما لا يدرك بها كوجود الله تعالى.
خامساً: قوله (عليه السلام): «ولَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ». أي: من أثبت وجوده تعالى؛ بكونه مثبتا له بقلب لا يبصره، وإنّما أكَّد سلام الله عليه بهذين السلبين الأخيرين ـ فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُه ولَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ ـ ُ لأنّهما يشتملان الوهم عند الاطلاع للوهلة الأولى الى أن يقهر العقل ذلك الوهم والتصديق برؤيته واثباته عقلا.
سادساً: قوله (عليه السلام): «سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ». أي: أن يكون علوّه تعالى علوّا عقليّا مطلقا بمعنى أنّه لا رتبة فوق رتبته بل جميع المراتب العقليّة منحطَّة عنه.
سابعاً: قوله (عليه السلام): «وقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ». وقد أورد(عليه السلام) القرب هاهنا مقابلا للبعد اللازم عن السبق في العلوّ فإنّه مستلزم للبعد عن الغير فيه، وأورد الدنوّ مقابلا للعلوّ المتقدم في كلامه(عليه السلام)، فكذلك الدنوّ يقال فلان أدنى إلى فلان وأقرب إليه إذا كان خصّيصاً به مطَّلعاً على أحواله أكثر من غيره، فقربه في دنوّه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وبهذا الاعتبار هو أقرب كلّ قريب وأدنى كلّ داني كما قال تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[3]، وهو أدنى إلى العبد من نفسه.
ثامنا: قوله(عليه السلام): «فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ولَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ». تأكيد لردّ الأحكام الوهميّة بالأحكام العقليّة، فإنّ الوهم يحكم بأنّ ما استعلى على الأشياء كان بعده عنها بقدر علوّه عليها، وما قرب منها فقد ساواها في أمكنتها، ونحن لمّا بيّنا أنّ علوّه على خلقه وقربه منهم ليس علوّا وقربا مكانيّين بل بمعان أخرى لا جرم لم يكن استعلاؤه بذلك المعنى على مخلوقاته مباعدا له عن شيء منها ولم يكن منافيا لقربه بالمعنى الَّذي ذكرناه بل كان الاستعلاء والقرب مجتمعين له، ولم يكن قربه منها أيضا موجبا لمساواته لها في المكان عنادا للوهم وردّا لأحكامه الفاسدة في صفات الجلال ونعوت الكمال[4].
مجلة اليقين، العدد (66)