علي عن شبه المخلوقين

ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له في تمجيد الله وتعظيمه: «الْحَمْدُ لِله الْعَلِيِّ عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ، الْغَالبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ، الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِه لِلنَّاظِرِينَ، والْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِه عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ، الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ ولَا ازْدِيَادٍ، ولَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ، الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ ولَا ضَمِيرٍ، الَّذِي لَا تَغْشَاه الظُّلَمُ، ولَا يَسْتَضِيءُ بِالأَنْوَارِ، ولَا يَرْهَقُه لَيْلٌ، ولَا يَجْرِي عَلَيْه نَهَارٌ، لَيْسَ إِدْرَاكُه بِالإِبْصَارِ، ولَا عِلْمُهُ بِالإِخْبَارِ».

  علم الله تعالى غير مكتسب، وليس كعلومنا نحن المخلوقون، فإنّ علومنا تكتسب بالاستدلال والنظر والاستقصاء، وليس هو علماً يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم ومعارف أحدنا، وتكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها، وليس هو سبحانه يعلم الأشياء بعلم مُحدث مجدّد كما يذهب إليه جماعة، فقد قدّر الله سبحانه وتعالى الأمور كلّها بغير الحاجة الى وقت وروية، أي بغير فِكر ولا ضمير كما هو الحاصل عند الإنسان من الرأي والاعتقاد والعزم في قلبه قبل التوجّه إلى قضاء الشيء واتمامه، ولا يغشى الله سبحانه وتعالى ظلام؛ لأنّه ليس بجسم ولا يستضئ بالأنوار كالأجسام ذوات البصر فلا يعتم ليل نظره ولا رؤياه، ولا يجرى عليه نهار؛ لأنّه ليس بزماني ولا قابل للحركة ولا يُدرك بالبصر؛ لأنّ ذلك يستدعى مقابلته ورؤيته مجسّماً، وأما تحصيله سبحانه بالإخبار ليس مقصوراً على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلَّفين وأحوالهم، بل هو يعلم كلّ شيء؛ لأنّ ذاته ذات واجبة لها المُكنة أن تعلم كلّ شيء لخصوصية ذاته من غير زيادة أمر عليها.

  فقوله(عليه السلام): «الْحَمْدُ لِله»، أي: يحمد الله تعالى باعتبارات ما يُضاف لاسمه سبحانه ويطلق عليه من صفات مضافة ككرمه أو مسلوبة عنه كالظلم.

أولها: قوله(عليه السلام): «الْعَلِيِّ عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ»، أي: متعالي، وهو عليّ في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله.

الثاني: قوله(عليه السلام): «الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ»، كما قدّمنا أنّ تلك الغلبة إشارة إلى تعاليه سبحانه عن إحاطة الأوصاف به وفوتها على واصفيه وعدم قدرتهم على إحرازها ونعتها.

الثالث: قوله(عليه السلام): «الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِه لِلنَّاظِرِينَ»، أي: ظاهر للخلق وملاحظ لهم من خلال عجائب تدبيره سبحانه وهذا الظهور يكون بأعين بصائر الخلق تارةً وأبصارهم تارةً أخرى.

الرابع: قوله(عليه السلام): «الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِه عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ»، بجلال عِزَّته: تنزيه له سبحانه من عقول الخلق عن وصف باطنه جلّ وعلا وسبر غوره بأفكارهم باعتبار جلالته وعِزَّته، ورفعة مخصوصة له من احتواء عقول الخلق من أن تناله لا باعتبار سطحية وصغر نستجير بالله، وإنّما قال: فكر المتوهّمين؛ لأنّ النفس الإنسانيّة حال التفاتها إلى استلاحة الأمور العلويّة المجردّة لا بدّ أنّ يستعين بالقوّة المتخيّلة لتباعث الوهم في أن تصوّر تلك الأمور بصور خياليّة مناسبة لتشبيهها بها وتحطّها إلى الخيال.

الخامس: قوله(عليه السلام): «الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ ولَا ازْدِيَادٍ»، أي: إنّ الله تعالى عالم منزَّه في كيفيّة علمه عن الاكتساب له بعد جهل أو ازدياد منه بعد نقصان أو استفادة له عن غيره كما عليه علم المخلوقين وجارٍ عليهم.

السادس: قوله(عليه السلام): «الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ ولَا ضَمِيرٍ»، أي: الموجد لجميع الأمور على وفق قضائه وحكمته، كلَّاً بمقدار معلوم تنزّه فيه عن التفكَّر والضمير، وأراد بالضمير ما اضمر من الرويّة.

السابع: قوله(عليه السلام): «الَّذِي لَا تَغْشَاه الظُّلَمُ، ولَا يَسْتَضِيءُ بِالأَنْوَارِ»؛ لتنزُّهه تعالى عن الجسميّة ولواحقها.

الثامن: قوله (عليه السلام): «ولَا يَرْهَقُه لَيْلٌ، ولَا يَجْرِي عَلَيْه نَهَارٌ»، أي: لا يدركه ليل، ولا يجرى عليه نهار، وذلك لتنزّهه عن إحاطة الزمان.

التاسع: قوله (عليه السلام): «لَيْسَ إِدْرَاكُه بِالإِبْصَارِ»؛ لتقدُّس ذاته عن الحاجة إلى الآلة في الإدراك وغيره.

العاشر: قوله (عليه السلام): «ولَا عِلْمُه بِالإِخْبَارِ»، أي: كما عليه كثير من علومنا لتقدُّسه عن حاسّة السمع[1].

مجلة اليقين، العدد (65)


[1] انظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج4، ص29. نهج البلاغة خطب الإمام علي(عليه السلام)، تحقيق صالح: ص229. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج11، ص63.