قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تمجيد الله سبحانه: «أَحْمَدُه اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِه واسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِه، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِه، وأَسْتَعِينُه فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِه، إِنَّه لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاه ولَا يَئِلُ مَنْ عَادَاه، ولَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاه، فَإِنَّه أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وأَفْضَلُ مَا خُزِنَ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه...».
قوله (عليه السلام): «أَحْمَدُه اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِه». المراد بالحمد ها هنا الشكر، وقد جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) لحمده غايتين:
الأولى: الاستتمام لنعمة الله وذلك لأنّ العبد يستعدّ بمزيد من الشكر لمزيد من النعمة، وهو في ذلك ناظرا إلى قوله تعالى: (وَلَئِنِ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) لما تشتمل عليه الآية من البعث على رجاء المزيد.
الثانية: الاستسلام لعزّة الله تعالى، فإنّ العبد أيضاً يستعدّ بكمال الشكر لمعرفة المشكور، وهو الله سبحانه، وهي مستلزمة للانقياد لعزّته، والخشوع لعظمته، وهو في ذلك ناظر إلى قوله تعالى: «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»، لما تشتمل عليه الآية من التخويف المانع من مقابلة نِعم الله تعالى بالكفر، ثمّ لمّا كان الاستعداد لتمام النِعم والتأهّل لكمال الخضوع والانقياد لعزّة الله سبحانه إنّما يتمّ بعد أن تكون العناية الإلهيّة، آخذة بضبعي العبد، وجاذبة له عن وحل المعاصي مبّعدة له عن أسباب التورّط فيها بكفاية المؤنة والأسباب الداعية إلى الانضواء نحو الإفراط أو التفريط.
قوله (عليه السلام): «واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِه، وأَسْتَعِينُه فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِه»، جعل (عليه السلام) للحمد المتقدم غاية أخرى هي الوسيلة إلى الاستعصام بالله سبحانه من معصيته، وعقّب ذلك الشكر بطلب المعونة أو الاستعانة منه على تمام الاستعداد لما سأل وشكر لأجله، وجعل لتلك الاستعانة علَّة حاملة، وهي الفاقة نحو غاية، هي كفاية دواعي التفريط والإفراط بالجذبات الإلهيّة، ولا شكّ أنّ الغايتين المذكورتين لا يتمّ بدون عصمته والمعونة بكفايته.
قوله(عليه السلام): «إِنَّه لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاه ولَا يَئِلُ مَنْ عَادَاه، ولَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاه»، هذا الكلام تعليل لطلبه المعونة على تحصيل الكفاية، فإنّه لمّا كان حصول الكفاية مانعاً من دواعي الافراط والتفريط كان العبد مستقيم الحركة على سواء الصراط، وذلك هدى الله يهدي به من يشاء، فكأنّه قال(عليه السلام): وأستعينه على أن يرزقني الكفاية المستلزمة للهداية التي هي الغنى الحقيقي والملك الأبديّ، فإنّه لا يضلّ من هداه، ولا ينجو من عذابه من عاداه، وأعرض عن شكره، والاستعانة به، وقد أطلق(عليه السلام) هاهنا لفظ المعاداة لله سبحانه كما أطلقها القرآن الكريم على من تلبّس بعبادة الله من عباده مجازا.
قوله(عليه السلام): «فَإِنَّه أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وأَفْضَلُ مَا خُزِنَ»، الضمير في (فَإِنَّه) يعود إلى الله سبحانه، ولمّا كانت ذاته مقدّسة عن الوزن والخزن -اللذين هما من صفات الأجسام- فيكون الأحرى أن المقصود رجحان عرفانه في ميزان العقل؛ إذ لا يوازنه عرفان، بل لا يخطر ببال العارف عند الإخلاص غيره سبحانه وتعالى حتّى يصدق أن هناك موازنة يقال فيها الرجحان لكفة دون أخرى، ويكون المراد بالخزن هنا خزن ذلك العرفان في أسرار النفوس القدسيّة.
قوله(عليه السلام): «وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه»، هذه الكلمة أشرف كلمة وِحّد بها الخالق عزّ اسمه، ونشير لما تضمّنه تركيبها من حسن الوضع المؤدىّ للمقصود التامّ منها، وبالجملة هي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، وفيها كما هو معلوم مقدّرا يكون خبراً لـ (لا)، وتقديره لا إله لنا إلَّا الله، أو لا إله موجود إلَّا الله، وعموماً لا حاجة إلى تقدير أمر زائد فيها لما يجده الإنسان في نفسه عند الاعتبار والتأمل بها، وبها قد أنزلَ الله كتبه وأرسل رسله، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[1]، وقد وردت لهذه الكلمة فضائل في السنة النبوية منها: ما قاله النبي(صلى الله عليه وآله): «ليسَ علَى أَهْلِ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وحشةٌ في المَوْتِ، وَلا عندَ النَّشرِ، وَكَأنّي أَنْظرُ إِلى أَهلِ لَا إِلهَ إِلا اللهُ عِندَ الصَّيْحةِ يَنْفضُونَ شُعورَهُم من التُّرَابِ ويقولونَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ»[2].
مجلة اليقين، العدد (64)