قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وأَدَامَ مُرَبَّهَا وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ َمَخَضَتْه مَخْضَ السِّقَاءِ، وعَصَفَتْ بِه عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَه إِلَى آخِرِه وسَاجِيَه إِلَى مَائِرِه حَتَّى عَبَّ عُبَابُه، ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُه، فَرَفَعَه فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وجَوٍّ مُنْفَهِقٍ، فَسَوَّى مِنْه سَبْعَ سَمَوَاتٍ، جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً، وعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا ولَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ، وأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وقَمَراً مُنِيراً، فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وسَقْفٍ سَائِرٍ ورَقِيمٍ مَائِرٍ».
التعريف بكلمات الخطبة ومعانيها:
قوله (عليه السلام): «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وأَدَامَ مُرَبَّهَا وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ».
يقصد الإمام (عليه السلام) بقوله هذا: أن المنشأ هو موضع النشأة، والولادة، والخلق، ومعناها أن الله سبحانه قد خلق ريحاً فوق الماء، وهذه الريح قد وصفها بأنها ريحاً اعتقم مهبها، والمعنى أنها عقيمة بهبوبها لا تلقح شيئاً، وأدام مُرَبَّهَا: أي دام محل إقامتها وأمدها، ومجراها كان عاصفاً شديداً، وهي ملازمة للماء وقوية جداً.
قوله (عليه السلام): «مَخَضَتْه مَخْضَ السِّقَاءِ، وعَصَفَتْ بِه عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَه إِلَى آخِرِه وسَاجِيَه إِلَى مَائِرِه حَتَّى عَبَّ عُبَابُه».
يقصد بمخضت الشيء وعصفت به: أي حرّكت الشيء تحريكاً شديداً، أي انه تعالى قد سلَّط هذه الريح الثانية على الماء فجعلته مائراً أي حركته تحريكاً، وكان هذا التحريك قوياً وشديداً بعد أن كان ساجياً أي ساكناً حتى عب: أي حتى ارتفع، وتراكم بعضه فوق بعض.
قوله(عليه السلام): «ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُه، فَرَفَعَه فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وجَوٍّ مُنْفَهِقٍ، فَسَوَّى مِنْه سَبْعَ سَمَوَاتٍ».
ويقصد بالزبد: ما يعلو الماء والمراد هنا أنه كان من نتيجة تحريك الريح للماء بقوة وشدة ان تبخر الماء، وصار بخاراً ويقصد برُكَامُه أن هذا البخار متراكم بعضه فوق بعض، وكان كثيفاً، ويسمى هذا البخار الكثيف المتجمد زبداً، فرفعه الله تعالى في هواء منفتق أي منشق ومفتوح ويقصد به الفضاء المنفهق أي الواسع، فسوى منه السبع سماوات.
قوله (عليه السلام): «جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً، وعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا ولَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ، وأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وقَمَراً مُنِيراً، فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وسَقْفٍ سَائِرٍ ورَقِيمٍ مَائِرٍ».
يقصد من الكلام أنه ما من جرم في السماء إلا وهو في حركة دائمة لا يقف لحظة واحدة، بل يدور حول نفسه أو غيره، أو ينتقل كل يوم أو كل شهر أو كل عام من موضع إلى آخر، ولذا شبه الأجرام السماوية بالموج الدائم في حركته، ويقصد بالموج المكفوف هنا: الموج الجامد، وخص بالذكر الجهة السفلى مع أن الجرم يتحرك بكامله، لأن هذه الجهة يمكن رؤيتها من الأرض، ولو بواسطة المراصد، والمراد بالمكفوف هو الجمود وعدم السيلان.
قوله(عليه السلام): «وعلياهن سقفاً محفوظاً»، أي من الخلل ونحوه، ويطلق السقف على جهة العلو من كل شيء، ويصح بالنسبة إلى من يراه أهل الأرض بأعينهم، أما السموات والأجرام السابحة في الفضاء فلا أرض عندها كي توصف بالعلو أو الدنو والسفل، وعليه يكون وصف السماوات بذلك تجوزا، لا حقيقة.
(وسمكاً مرفوعاً). كقوله تعالى: (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها)[1]، أي: رفع أجرام الكواكب فوق رؤوسنا فعدّلها بوضع كل جرم في موضعه الذي به يتماسك ويتجاذب مع غيره من الأجرام.
قوله(عليه السلام): «بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا ولَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا»، يقصد أن الأجرام السماوية قائمة في الهواء، لا ترتكز على شيء، ولا يشد بعضها ببعض مسمار أو غيره سوى ما أودع الله فيها من الجاذبية التي تحكم جميع الكواكب.
قوله(عليه السلام): «ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ»، ربما الضمير الهاء في زيّنها تعود إلى السماء الدنيا، لأن الله تعالى قال: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ»[2]. أو تعود الهاء في (زينها ويدعمها وينظمها) إلى شيء واحد، وهي «سبع سماوات» لأنها في سياق واحد، والمعنى أن الله سبحانه زين السموات بالكواكب وكذلك بالنجوم التي نعتها الإمام(عليه السلام) بضياء الثواقب أي النجوم المنيرة المشرقة، ولم يدرج الشمس والقمر من ضمن الزينة، بل نعتهما بالسراج المسطير للشمس وبالمنير للقمر.
قوله(عليه السلام): «فِي فَلَكٍ دَائِر». فلك الشيء مداره، والمعنى أن النجوم والشمس والقمر كلها تسبح في الفضاء الرحب، في فلك دائر وسقف سائر: أي متحرك، ورقيم ـ لوح ـ مائر أي مثل الرقيم المتحرك، والحركة دائمة كما أسلفنا، وهذه الأجرام الفلكية المضيئة المتحركة هي زينة للناظرين، بالإضافة لمنافع أخرى لا تحصى[3].
مجلة اليقين، العدد (63)