قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وشَقَّ الأَرْجَاءِ وسَكَائِكَ الْهَوَاءِ، فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُه، مُتَرَاكِماً زَخَّارُه حَمَلَه عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، والزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّه، وسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّه وقَرَنَهَا إِلَى حَدِّه، الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ والْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ».
تكلم الناس كثيراً عن طبيعة الكون وأصله، وعن هيئته وشكله في أول وجوده وتكوينه، فتساءلوا: هل وجد الكون من التراب والماء والنار والهواء؟ أو من النار وحدها؟ أو من الماء فقط؟ أو من أشياء أخرى؟ وهل كان وجوده دفعة أو بالتدريج؟ إلى غير ذلك من التساؤلات، وهذا ما دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) - كما نظن - أن يشير في خطبته هذه إلى أصل الكون، وكلامه واضح وصريح في ابتداء الكون الأول الذي سبق الأكوان كلها، وما قبله كان العدم، وقد أنتهى الكون الأول، وجاء بعده عدّة أكوان، بهكذا نطقت الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) منها قول الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «...والله لقد خلق الله ألف ألف عالم، وألف ألف آدم..»[1].
فقوله (عليه السلام): «ثُمَّ أَنْشَأَ». «ثم» حرف عطف على معنى كلام الإمام (عليه السلام) المتقدم عن قدرة الله وعظمته.
فقوله (عليه السلام): «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وشَقَّ الأَرْجَاءِ وسَكَائِكَ الْهَوَاءِ». هذه الكلمات الثلاث كلها تشير إلى شيء واحد، وهو الفضاء أو الفراغ اللانهائي، وأيضا تشير إلى أن لهذا الفراغ أبعادا ثلاثة: علوا، وإليه أومأ الإمام بالأجواء، وأطرافا، وهي مراده من الأرجاء، وبالطبقات وعبّر عنها الإمام (عليه السلام) بالسكائك، وجمع الأجواء والأرجاء والسكائك، ولم يعبّر عنها بالإِفراد - بالنظر إلى تعدد طبقات الفضاء الكوني، وهذه الطبقات اكتشفت بالحس والتجربة بعد غزو الفضاء وصعود الإنسان إلى القمر، والذي نفهمه إن الله سبحانه جعل الفضاء حيزا ومقرا للكائن الأول من خلقه.
قوله (عليه السلام): «فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُه، مُتَرَاكِماً زَخَّارُه». إن ضمير (فيها) يعود إلى الأجواء والأرجاء والسكائك، وقوله متلاطماً صفة للماء، وتياره فاعل لمتلاطم، ومثله متراكماً زخاره، ومتلاطماً ومتراكماً كناية عن كثرة الماء وعظمته، وامتداده وارتفاعه، ويدل هذا على أن المخلوق الأول لله تعالى هو الماء، وانه تعالى أوجده في الجو محمولاً على ريح كثيفة وقوية للغاية، كما قال(عليه السلام): «حَمَلَه عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، والزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ». فالضمير في حمله يعود إلى الماء: والعاصفة: الشديدة الهبوب، والزعزع: يقصد به التحريك.
قوله (عليه السلام): «فَأَمَرَهَا بِرَدِّه، وسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّه وقَرَنَهَا إِلَى حَدِّه». الضمير الهاء في كل من (أمرها، وسلطها، وقرنها) يعود للريح، وأما في (رده وشده وحده) يعود للماء، ومعنى (قرنها إلى حده) أي ان الله سبحانه قد جعل الماء والهواء بنسب معينة ومحددة بعضها لبعض لا تزيد ولا تنقص، وبحسب إمكانية حمل الريح لذلك الماء في الغيمة مثلا.
وبالتالي إن الله سبحانه بعد أن خلق الماء فوق الريح بنسب محددة، أعطاها جلت حكمته، قوة عظيمة وجاذبية تستطيع معها أن تشد الماء إليها على ضخامته بحيث لا يسقط منه قطرة واحدة من الماء من أطرافه ولا من خلاله.
قوله (عليه السلام): «الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ والْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ». يقصد بالهواء: الجو والفضاء، وأما فتيق: فهو الخالي اللا شيء فيه، وأما الدفيق: فهو الدافق المستمر الانسياب، والضمير (الهاء) في (تحتها وفوقها) راجعة للريح، ومعنى كلام الإمام(عليه السلام) انه كان آنذاك فوق الريح ماء، وتحتها فضاء، فأرسلها وعقد مهبّها أي أرسلها بمقدار مخصوص على وفق الحكمة والمصلحة الَّتي أرادها ولم يرسلها مطلقاً بدون هدف معين، وقد كونت بسببها السماء، وهذه الإشارة قد وردت في القرآن الكريم فإنّه أشير فيه إلى أنّ السماوات تكوّنت من الدخان كقوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ» والمراد بالدخان هنا بخار الماء الذي رفعته الريح، كما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «لمّا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق السماء أمر الرياح فضربن البحر حتّى أزبد فخرج من ذلك الموج والزبد دخان ساطع من وسطه من غير نار فخلق الله منه السماء»[2].
المصادر:
نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صالح: ص41.
شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج1، ص138.
في ظلال نهج البلاغة، لمحمد جواد مغنية: ج1، ص36.
مجلة اليقين، العدد (62)