خالق العالم

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً، وابْتَدَأَه ابْتِدَاءً، بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا، ولَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، ولَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، ولَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا، ولأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا، وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا، عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا».

قوله (عليه السلام): «أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وابْتَدَأَه ابْتِدَاءً». يشير إلى كيفيّة إيجاد الخلق بواسطة قدرة الله تعالى؛ فإنّه سبحانه لمّا لم يكن مسبوقاً بإلهٍ غيره لا جرم صدق الإنشاء منه، ولمّا لم يكن العالم موجوداً قبل وجوده لا جرم صدق ابتدائه له.

قوله (عليه السلام): «بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا ولَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، ولَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا ولَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا».

لمّا كانت هذه الكيفيّات الأربع ـ الروية، والتّجربة، والحركة، وهمامة النّفس ـ من شرائط علوم النّاس وأفعالهم فأراد (عليه السلام) تنزيه الله سبحانه وتعالى عن أنّ إيجاده للعالم ليس موقوفاً على شيء منها، ويقصد بهمامة النّفس هنا: اهتمامها بالأمور.

قوله (عليه السلام): «أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا، ولأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا».

الإحالة: هي التّحويل والنّقل والتّغيير والانقلاب من حال إلى آخر، وأراد بذلك الإشارة إلى ربط كلّ ذي وقت بوقته بحسب ما كتب في اللّوح المحفوظ بالقلم الإلهيّ، بحيث لا يتأخّر متقدّم ولا يتقدّم متأخّر منها، وتحويله من العدم والإمكان الصّرف إلى مدّته المضروبة لوجوده، واللاّم في (لأوقاتها) لام التّعليل، أي: لأجل أوقاتها؛ إذ كلّ وقت يستحقّ بحسب قدرة الله وعلمه أن يكون فيه ما لا يكون في غيره، ونبّه بقوله: (ولأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا) يدل على كمال قدرة الله تعالى، أي: أنّه سبحانه قد لائم بين العناصر الأربع المتضادّة المذكورة آنفا (الروية، والتجربة، والحركة، وهمامة النفس)، وإنّها اجتمعت بقدرة الله تعالى وعلى وفق حكمته.

وقوله (عليه السلام): «وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا، وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا».

المراد: أنّ ما غرّزه الله تعالى في الأشخاص من الغرائز واللّوازم لا تفارقهم، سواء كانت تلك الغرائز من لوازم الشّخص كالذّكاء والفطنة بالنسبة إلى بعض النّاس، والبلادة والغفلة للبعض الآخر، أو من لوازم الماهيّات وطباعها لوجودها في أشخاصها، فخلق الله تعالى كلّ ذي طبيعة على خلقه ومقتضى قواه التي غرّزت فيه من لوازمه وخواصّه، كقوّة التعجّب والضّحك للإنسان، وعبّر عن إيجادها فيه بالغرز الّذي هو الركز من باب الاستعارة، والتّشابه بينها كالتّشابه بين العود الَّذي يركز في الأرض من جهة المبدأ ومن جهة الغاية، وذلك أنّ الله سبحانه لمّا غرّز هذه الغرائز في محالَّها وأماكنها وأصولها كانت الغاية منها الآثار الموافقة لمصلحة العالم، وقد أشبه ذلك الغرز غرز الإنسان للعود في الأرض لغاية أن يثمر ثمراً ينتفع به.

هذا إن قلنا إنّ الضّمير في (ألزمها) عائد إلى الغرائز، وأمّا إن قلنا إنّه عائد إلى الأشياء كان المراد أنّ الله سبحانه لمّا آجل الأشياء لأوقاتها، ولائم بين مختلفاتها، وغرّز غرائزها في علمه وقضائه، ألزمها لأشخاصها الَّتي وجدت فيهم.

قوله (عليه السلام): «عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا». أي: عالماً بالأشياء قبل إيجادها، حاضرة في علمه بالفعل كلَّيها وجزئيّها، وفي القضيّة الثّانية نسبة تلك الأفعال إليه حال إحاطة علمه بحدودها وحقائقها المميّزة لبعضها عن بعض، وإنّ كلَّ مُنْتَهٍ بحدّه واقف عنده وهو نهايته وغايته. ويحتمل أن يريد بانتهائها انتهاء كلّ ممكن إلى سببه، وفي القضيّة الثّالثة نسبة الأفعال إلى قدرته حال علمه بما يقترن بالأشياء من لوازمها وعوارضها، وعلمه بكلّ شيء يقترن بشيء آخر على وجه التّركيب أو المجاورة كاقتران بعض العناصر ببعض في مساحتها الطّبيعيّة، وعلمه بأحنائها وجوانبها الَّتي بها تنتهي وتقارن غيرها، وبيان هذه الأحكام له تعالى ببيان أنّه عالم بكلّ المعلومات من الكلَّيّات والجزئيّات[1].

مجلة اليقين، العدد (61)


[1] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص41. وانظر شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج1، ص138.