قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «...ووَقَفَ الْجَارِي مِنْه لِخَشْيَتِهِ، وجَبَلَ جَلَامِيدَهَا، ونُشُوزَ مُتُونِهَا وأَطْوَادِهَا، فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا، وأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا، فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ، ورَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا، ومَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا، وأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً، وأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا، وأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً، وبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً، فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي، وقَائِمٍ لَا يَسْرِي، تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ، وتَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)».
توضيح خطبة الإمام (عليه السلام):
قوله: «ووَقَفَ الْجَارِي مِنْه لِخَشْيَتِه». فلا يدلّ دلالة قاطعة على أنّه كان جارياً ووقف، ولكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم والتبجيل، ومعناه: أنّ الماء طبعه الجريان فهو جارٍ بالقوة وإن لم يكن جارياً بالفعل، وإنّما وقف ولم يجرِ بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من الجريان.
قوله: «وجَبَلَ جَلَامِيدَهَا ونُشُوزَ مُتُونِهَا وأَطْوَادِهَا فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا وأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ ورَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ». أي: خلق صخورها، والنشوز ما نشز من الأرض واختلف، ويقصد هنا: اختلاف متون جوانب الجبال، وسبحانه قد خلق الجبال في الأرض، فأرساها في مراسيها، أي: أثبتها في مواضعها، وجعل أصولها راسخة وراسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض، وأعاليها شامخة في الهواء.
قوله: «فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا». أي: أعلى الجبال فهي ناهدة، وقوله: سهولها: ما تضامن منها عن الجبال، وبالتالي رفع جبالها على سهولها.
قوله: «وأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا ومَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا». كقولك ساخت قوائم الفرس في الأرض، أي: دخلت فيها وغابت، أي: أدخل قواعد الجبال في متون وتخوم الأرض بمواضع انتصابها.
قوله: «فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا». ومعناه: ما علا من رأس الجبل، وأشهقها: جعلها شاهقة، أي: عالية.
قوله: «وأَطَالَ أَنْشَازَهَا». أي: أطال عوالي الجبال. والأنشاز هنا هو جمع نشز، وهو العوالي منها.
قوله: «وجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً وأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً». أي: سبحانه قد جعل هذه الجبال عماداً للأرض تمنعها من الحركة والاضطراب، ولولاها لماجت الأرض واضطربت، وليس ذكره للجبال، وكونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضاً للنظر الحكمي؛ لأنّ الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة، فيكون ثقلها مانعاً من الهدّة والرّجفة. وأرّزها: أي: أثبت الجبال في الأرض، كقولك شجرة آرزة، أي: ثابتة في الأرض، وأوتاداً: جمع وتد، أي: جعل الله الجبال أوتاداً ثابتة مغروزة فيها.
قوله: «فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا». أي: سكنت الجبال على حركة الأرض.
وقوله: «مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا». ومعنى تميد: أي: تتحرّك بأهلها، وتسيخ: تنزل وتهوى، أي: تسيخ بحملها، أو تفنى عن مواضعها، ويفهم منه: أنّه لولا الجبال كونها أوتاداً للأرض لمادت وساخت بأهلها. فأمّا كون الجبال مانعة لها من الَميَدان، وأمّا كون الأرض تسيخ لولاها فلأنّها إذا مادّت انقلبت بأهلها، فغاص الوجه الذي هم عليه، وذلك مراده بسيخها فالمانع بها من الَميَدان هو المانع بها أن تسيخ أو تزول عن موضعها.
قوله: «فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا فَجَعَلَهَا لِخَلْقِه مِهَاداً وبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وقَائِمٍ لَا يَسْرِي».
ويقصد بموجان مياه الأرض: أي: فيه اضطراب وحركة كالغليان والخفقان ونحو ذلك.
وأجمدها: أي: جعل الله تعالى الأرض جامدة بعد رطوبة أكنافها ـ جوانبها ـ إلى أنّ أصلها، من زبد الماء أو يشير بذلك ما كان مغموراً بالماء منها، ثمّ سال الماء عن تلك الجوانب والأطراف إلى المواضع المنخفضة منها فخلا وجفّ فكانت أراض كثيرة مسكونة وغير مسكونة، ذلك مراده من قوله: جعلها مهاداً ـ فراشاً ـ فوق بحر لُجيّ أي: كثير الماء.
قوله: «تُكَرْكِرُه الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ». أي: تعصف الرّياح الشّديدة بالماء فتموّجه لكرات مائية، فتدفعها الرياح وتردها إليه.
قوله: «وتَمْخُضُه الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ». أي: إنَّ مَن تحرك البحر هي الغمام الدوامع، وهي السحب الماطرة، إشارة إلى أنّ البحر إذا وقع فيه المطر تمخض واضطرب لتحريك وقع المطر عليه بكثرة وقوّة أو لاقتران المطر بالرياح فتموّجه.
قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى». لمّا ذكر من قدرة ربّانيّة فيما تقدّم نبّه على وجوه الاعتبار بها لِمَنْ يخشى الله، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[1].[2].
مجلة اليقين، العدد (59)