إن في ذلك عبرة لمن يخشى

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له في عجيب صنع الله تعالى للكون فابتدأها بقوله:

«.. وكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِه وبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِه أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْـمُتَرَاكِمِ الْـمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْه أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِه وقَامَتْ عَلَى حَدِّه وأَرْسَى أَرْضاً يَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ والْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لأَمْرِه وأَذْعَنَ لِهَيْبَتِه...»[1].

توضيح خطبة أمير المؤمنين(عليه السلام):

قوله(عليه السلام): (وكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِه)، أنّه لمّا كانت هذه البحار والسموات والجبال وغيرها في غاية القوّة والعظمة، لما فيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة، ما يبهر العقول ويعجزها عن كيفيّة شرحه، لا جرم نسبها إلى اقتدار الله تعالى وجبروته وعظمته وحكمته وبديع لطائف صنعته؛ تنبيها بأنّه الأعظم المطلق.

وبلاغة تعبيره(عليه السلام) بالبحر الزاخر، أي: قصده الممتد جداً، والمرتفع والمتراكم أيضاً والمجتمع بعضه على بعض، والمتقاصف الشديد الصوت كقصف الرعد.

وقوله(عليه السلام) باليبس: هو المكان الذي يكون رطبا ثم ييبس، ومنه قوله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَساً)[2]، وأما معنى (فَطَرَ) أي: خَلَق، فهو جلّ وعلا فاطر كلّ شيء، وقوله(عليه السلام): (أَطْبَاقاً) جمع طبق، وهي أجزاء مجتمعة من غيم أو غير ذلك، فيقصد بقوله (عليه السلام): (ثُمَّ فَطَرَ مِنْه أَطْبَاقاً) أي: أجساماً منفصلة في الحقيقة، متصلة في الصورة، بعضها فوق بعض، كقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا)[3]، والضمير في كلمة (مِنْه) يرجع إلى ماء البحر، وهو أولى من رجوعه الى اليبس، فيقول(عليه السلام): «فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا». أي: خلق الله تعالى منها أجساماً متفرقة بعد أن كانت ملتئمة ومجتمعة.

فعن ابن عباس عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله): أنه قال عندما سئل عن معنى الآية: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)[4]، فقال: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات[5].

وقوله(عليه السلام): (فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِه)، أي: وقفت وثبتت بأمر الله تعالى، والضمير الهاء في (حده) تعود إلى أمره، أي: قامت على حدّ ما أمرت به، أي: لم تتجاوزه ولا تعدته.

وقوله(عليه السلام): (وأَرْسَى أَرْضاً يَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ والْقَمْقَامُ الْـمُسَخَّرُ).

قوله(عليه السلام) (الأَخْضَرُ): هو البحر، ويسمى أيضاً (خضارة)، والعرب تسميه بذلك، إما لأنه لانعكاس لون السماء، فيُرى أخضر، أو لأنه يرى أسود لصفائه، فيطلقون عليه لفظ الأخضر، كما سمّوا الأخضر أسودا، نحو قوله تعالى: (مُدْهَامَّتَانِ)[6]، ونحو تسميتهم قرى العراق مثلاً بأرض السواد؛ لخضرتها وكثرة شجرها ونحو ذلك.

وأما قوله: (الْمُثْعَنْجِرُ) فهو السائل، نحو قولك ثعجرت الدم وغيره، فاثعنجر أي: صببته فانصب.

وقوله (عليه السلام): (الْقَمْقَامُ) بالفتح فهو من أسماء البحر، ويقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من الأمر؛ تشبيهاً بالبحر.

والمعنى عموماً: أن الأرض موضوعة على ماء البحر، وأن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى، وأن البحر الحامل لها قد كان جارياً، فوقف تحتها، وأن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة، فتحرّكه حركة عنيفة، وتموج السحب التي تغترف الماء منه؛ لتمطر الأرض به، وهذا كلّه مطابق للآية الشريفة الآنفة الذكر.

وكلّ ما تقدّم من الأشياء قد ذلَّت لأمر الله، وأَذْعَنت لهيبتهِ، وكما بيّنه أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته المتقدّمة[7].

مجلة اليقين، العدد (58)


[1] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص329.

[2] سورة طه: آية 77.

[3] الملك: 3.

[4] الأنبياء:30.

[5] تلخيص البيان، الشريف الرضي: ص36.

[6] سورة الرحمن: آية 64.

[7] انظر شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج4، ص27- نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: ج11، ص59.