من لا يدرك بالأبصار

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له بدأها بحمد الله وتنزيهه عن شبهه بالمخلوقين، وتفرّده بصفاته ومكنوناته، فقال(عليه السلام): «الْحَمْدُ لِله الْعَلِيِّ عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ، الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ، الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِه لِلنَّاظِرِينَ، والْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِه عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ، الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ ولَا ازْدِيَادٍ، ولَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ، الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ ولَا ضَمِيرٍ، الَّذِي لَا تَغْشَاه الظُّلَمُ ولَا يَسْتَضِيءُ بِالأَنْوَارِ، ولَا يَرْهَقُه لَيْلٌ ولَا يَجْرِي عَلَيْه نَهَارٌ، لَيْسَ إِدْرَاكُه بِالإِبْصَارِ ولَا عِلْمُه بِالإِخْبَارِ»[1].

ولمعرفة مغزى هذه الخطبة المباركة لا بد من إلقاء الضوء على معانيها:

فقوله(عليه السلام): «الْعَلِيِّ عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ».

أي: أنه سبحانه عليٌّ في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله عن مخلوقيه، فالمتعالي عن مشابهة مخلوقاته لا يشابه شيئا منها، ولا يشابهه شيء، فليس له شبه وشبيه ونظير، فالمخلوقات كلَّها محدودة بالحدود أو التعاريف الاصطلاحيّة المركَّبة من الجنس والفصل، أو بالحدود اللَّغويّة، والله سبحانه منزّه عن الحدّ والتعريف اصطلاحيّا كان أو لغويّا لاستلزام الأوّل التّركيب والثاني لافتقاره إلى محدد ومعرف، وكلّ مركب ومفتقر ممكن، فالواجب تعالى لا يمكن أن يكون له مشابه ومشارك في ذاته وصفاته وأفعاله.

والحاصل أنّ الواجب الوجود تعالى أجلّ وأعلى من أن يتّصف بالصّفات الإمكانية، فيشابه المحدثات ويشاركهم في جهة من الجهات.

وقوله: «الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ».

الغَلَب إشارة إلى تعاليه عن إحاطة الأوصاف به.

أي: إنه جلّ شأنه أجلّ من أن يقدر الواصفون على وصفه وبيان محامده، لعدم وقوف صفاته الكمالية وأوصافه الجمالية والجلالية إلى حدّ معين حتى تحيط بها العقول وتصفه الألسن، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»[2]، أي لا يطيق الشخص أن يحصي نِعم الله وإحسانه وإن اجتهد كما أثنى الله على نفسه وهو اعتراف صريح بالعجز.

قوله: «الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِه لِلنَّاظِرِينَ».

أي: أنه تعالى ظاهر للناظرين وليس ظهوره بذاته كما توهّمه المجسّمة وغيرهم من المجوّزين للرّؤية، بل بآثار قدرته وأعلام عظمته وبدائع صنعه وعجائب تدبيره وحكمته، والناظر هنا بعين البصيرة وأما عين الأبصار فهي طريق لعين البصيرة.

وقوله: «والْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِه عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ».

أي: أنّه سبحانه محتجب عن الأوهام والعقول باعتبار جلاله وعزّته وجبروته وعظمته، والحاصل أنّه ظاهر بآياته وباطن بذاته.

ولأنّ النفس الإنسانية حال التفاتها إلى الأمور العلوية المجرّدة، وعدم القدرة على اختراقها، كان لا بدّ أن يستعين بالقوّة المتخيلة بباعث الوهم، في أن تصوّر تلك الأمور بصور خيالية مناسبة، وقد علمت أنّ الوهم إنما يدرك ما كان متعلَّقا بمحسوس أو متخيل من المحسوسات، فكل أمر يتصوّره الإنسان وهو في هذا العالم سواء كان ذات الله سبحانه أو غير ذلك، فلا بدّ أن يكون مشوبا بصورة خيالية ومعلقا بها.

قوله: «الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ ولَا ازْدِيَادٍ»، العالم المنزّه في كيفيّة علمه عن اكتساب له بعد جهل، أو ازدياد منه بعد نقصان، أو استفادة له عن غير كما عليه علم المخلوقين.

قوله: «الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ ولَا ضَمِير»، أي: الموجد لجميع الأمور على وفق قضائه، كُلَّاً بمقدار معلوم تنزّه فيه عن التفكَّر والضمير، وأراد بالضمير ما أضمر من الرويّة.

قوله: «الَّذِي لَا تَغْشَاه الظُّلَمُ ولَا يَسْتَضِيءُ بِالأَنْوَارِ»، الَّذي لا تغشاه الظلم، ولا يستضيء بالأنوار لتنزّهه عن الجسميّة ولواحقها.

قوله: «ولَا يَرْهَقُه لَيْلٌ ولَا يَجْرِي عَلَيْه نَهَارٌ»، ولا يرهقه: أي: لا يدركه ليل ولا يجري عليه نهار، وذلك لتنزّهه عن إحاطة الزمان.

قوله: «لَيْسَ إِدْرَاكُه بِالإِبْصَارِ».

لتنزّهه من الاحتياج في الإدراك إلى الآلات والمشاعر كالإبصار لتقدّس ذاته عن الحاجة إلى الآلة في الإدراك.

قوله «ولَا عِلْمُه بِالإِخْبَار» أي بأن يخبره غيره بشيء فيحصل له العلم بذلك الشيء بسبب هذا الخبر، لاستلزام ذلك للجهل أوّلا والافتقار إلى حاسة السمع ثانيا، والنقص بالذات، والاستكمال بالغير ثالثا، وهذا كلَّه مناف لوجوب الوجود[3]

مجلة اليقين، العدد (57)


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(عليه السلام)، تحقيق صالح: ص330.

[2] البحار، المجلسي: ج68، ص23.

[3] انظر شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج4، ص30؛ وانظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج11، ص63.