وحدوية الخالق (جل وعلا)

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له قاصداً فيها ربّ العزّة جلّ جلاله: «...ومَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَه، ومَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْه، كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ والآلَةِ، بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْه مِنْ خَلْقِه، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِه ولَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِه»[1].

عند التمعّن والتأمّل في مفردات الخطبة المباركة نجد أنّها انطوت على مضامين عقدية كثيرة، ينبغي لنا التعرّض لها والتمعّن في مدلولاتها، وهي كالآتي:

-    قال (عليه السلام): «ومَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَه، ومَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْه»

يراد من هذه الفقرتين تأديب الخلق عن الاستفهامات المسيئة والمنقصة لمقام ربّ الجلالة، فَمَنْ استفهم بـ (فِيمَ) و(عَلَامَ)، فيلزم منه لوازم عقدية باطلة؛ لإنَّ تقدير الأولى هو أن يكون لله تعالى محلّ يتضمّنه، ولامتناع كونه في محلّ، فيمتنع السؤال عنه بـ (فِيمَ).

وأمّا الثانية: فلو جاز السؤال عنه تعالى بها لجاز خلوّه عن بعض الأماكن، ولعدم خلوّه عن مكان فإنّه تعالى يمتنع حينئذٍ الاستفهام عنه بـ(عَلَامَ).

-    وأمّا قوله(عليه السلام): (كَائِنٌ): كائن هو اسم فاعل يأتي في اللّغة بثلاث أنحاء: إما دالاً على الحدث والزمان، أو عدم الدلالة عليهما، أو على الزمان فقط، وبعد ذلك نعرف استحالة الذات المقدّسة اقترانها بالزمان، فاستحال أن يقصد وصفه بالكون الدالّ على الزمان.

-    وأمّا قوله (عليه السلام): «لَا عَنْ حَدَثٍ»: لعدم اقتران الذات المقدّسة بالحدث كذلك، فاستحالت أن تدلّ على الحدث لمسبوقيّتها بالعدم، وإذا بطل كونه مستلزماً للزمان ومسبوقيّة العدم لم يكن له دلالة إلَّا على الوجود المجرّد عن هذين القيدين.

-    وأمّا قوله (عليه السلام): «مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ»: المراد من هذا المقطع أنّ وجوده تعالى ليس بحادث، فالموجود من حيث هو موجود، إمّا أن يكون وجوده مسبوقاً بالعدم وهو المُحْدَث، أو لا يكون وهو القديم، ولو كان مُحْدَثاً لكان ممكناً، ولو كان ممكناً لما كان واجب الوجود، فتعيّن أن يكون قديماً.

-    وأمّا قوله(عليه السلام): «مع كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ»: المعيّة هنا (أي: مع) أعمّ من المقارنة؛ لاعتبار الزمان والمكان في مفهومها المتعارف، وعليه لم تكن معيّة للأشياء على سبيل المقارنة لها؛ لبراءة ذاته المقدّسة عن الزمان والمكان كما أسلفنا.

-    وأمّا قوله(عليه السلام): «وغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ»: فيحتمل المراد من المزايلة، المغايرة، لمّا كانت المغايرة أعمّ من المزايلة ـ المفارقة ـ لدخول الزمان والمكان في مفهومها؛ فتكون مغايرته للأشياء غير معتبر فيها المزايلة، وأما الثاني: إنّ كونه تعالى (غير كلّ شيء)، ومعناه: أنّه مميَّز بذاته عن كلّ شيء، فهو مباين لها بذاته لا بمزايلة، كما قال الإمام(عليه السلام)، فيكون المعنى لا بمفارقة عن كلّ شيء بعد الاشتراك فيها.

-    قوله(عليه السلام): «فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ والآلَةِ»: الحركة عبارة عن حصول المتحيّز حيّز بعد أن كان في حيّز آخر، والآلة هي ما يؤثّر الفاعل في فعله بسببها، لبيان أنّه فاعل، إلَّا أنّ ما يصدر عن الله تعالى من الآثار ليس بحسب حركة، ولا بتوسّط آلة كما يفتقر غيره لها، كقوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[2].

-    قوله(عليه السلام): «بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْه مِنْ خَلْقِه»: بصير: مشتق من البصر، والمراد منه: العين، وتطلق مجازاً على العِلْم، وأمّا المنظور إليه هو المشاهد، والمراد: وصفه تعالى بكونه بصيراً عليماً، بمعنى: أنّ له آلة البصر؛ لتنزّهه عن الحواسّ المادية.

-    وأمّا قوله(عليه السلام): «مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِه، ولَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِه»: المراد من الكلام: أنّه تعالى متفرّد بالوحدانيّة على وجه الانفراد، لكن لا كانفراد بعض الناس عن بعضهم عند الانفراد بعد الاجتماع والمشاركة والمشاورة والمحادثة، ولا كانفراد أحد عن آخر، وهو أنيسه الَّذي يستأنس بوجوده، ويستوحش لغيبته[3].

مجلة اليقين، العدد (56)


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(عليه السلام)، تحقيق صالح: ص39.

[2] سورة البقرة: آية 177.

[3] انظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج1، ص123.