قال سيّد البلغاء وسيّد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَه حَالٌ حَالاً، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً، ويَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً، كُلُّ مُسَمىً بِالْوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٌ، وكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ، وكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ، وكُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ، وكُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ..».
ولاستعراض كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) نشرع بالقول: إنّ قوله(عليه السلام): «فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً»، فيقصد بالأوّل، أي: قديم لا أوّل لوجوده، وبكونه آخراً فهو موجود حين تُعدم سائر الأشياء، فلفظ أول وآخر مؤداهما واحد، وهو أنّه قديم يجب وجوده في كلّ حال، ووجوده في كلّ حال وجود واحد، ولفظ الأوّل والآخر وتبدّلها مضافان إلى غيره لا إلى ذاته، لأنّه موجود قبل وبعد وجود الأشياء، لذلك لم تتغيّر له حالة في حالتي وصفه بالأوّل والآخر، فلم يكن كونه أوّلاً قبل كونه آخراً، لأنّ ما هو عليه في كونه أوّلاً هو بعينه في كونه آخراً، فنقول: أوّليّته هو اعتبار كونه مبدأ لكلّ موجود، وآخريّته هو كونه غاية لكلّ ممكن.
وأمّا قوله (عليه السلام): «ويَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً». ويُفهم منه معنيان: أحدهما: لمّا كانت البواطن أخفى من الظواهر كان المفهوم من كون باطنها أخفى من ظاهرها عند العقول فلا تدرك إلّا بالعقول النيّرة.
والآخر: كونه تعالى قد دلَّت عليه العلامات الظاهرة كآياته وآثاره في العالم الدالَّة على وجوده في كلّ صورة من الصور كما قيل:
وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد
فيراد بالظاهر معلوميته تعالى بكثرة الأدلَّة الظاهرة عليه بالحواسّ.
وقوله (عليه السلام): «كُلُّ مُسَمىً بِالْوَحْدَةِ غَيْره قَلِيلٌ».
مقصوده (عليه السلام) في هذه العبارة أنّه تعالى لا يُوصف بالقلَّة وإن كان واحدا، ولا يستلزم منه أن يُثبت له الكثرة، لأنّ القلّة قد نُفيت عنه، وهو من سوء الفهم، فلأنّ معنى الوحدة في المخلوقات أنّه منفرد عن جنسه، ومعنى الوحدة في صفات الله تعالى أنّه يستحيل أن يكون غيره إلهاً لتوحّده بالقِدم.
وأمّا معنى قوله (عليه السلام): «وكُلُّ عَزِيزٍ غَيْره ذَلِيلٌ»؛ لأنّ العزيز هو الَّذي لا يُمنع عن مراده، والعبد ممنوع عن أكثر مطالبه ومراده، ويستحيل المنع على الله تعالى، فالذلَّة المنع عن المراد.
وقوله(عليه السلام): «وكُلُّ قَوِيٍّ غَيْره ضَعِيفٌ»، لمّا كان استناد جميع الموجودات إلى تمام قدرته علمت أنّه لا أتمّ من قدرته قدرة، فكلّ قوّةٍ وصف بها غيره فبالنسبة إلى ضعف يقابلها لمَن هو دونه وإذا قيس بالنسبة إلى مَن هو فوقه كان ضعيفاً بالنسبة إليه، وكذلك مَن هو فوقه إلى أن ينتهي إلى تمام قدرة الله فهو القوىّ الَّذي لا يلحقه ضعف بالقياس إلى أحدٍ غيره، فكلّ قوي غير الله من المخلوقات يلحقه العجز والضّعف من قريب، وهذا واضح في قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)[1].
وأمّا قوله (عليه السلام): «وكُلُّ مَالِكٍ غَيْره مَمْلُوكٌ»، فإنّ معنى المالك يعود إلى القادر على الشيء الَّذي تنفذ مشيّته فيه باستحقاق دون غيره؛ ولأنّ المالك هو القادر على التصرّف الحسّي، وقدرة العباد واستطاعتهم من الله تعالى، فيكون كلّ مالك من العباد مملوكاً له.
وقوله (عليه السلام): «وكُلُّ عَالِمٍ غَيْرَه مُتَعَلِّمٌ». لمّا ثبت أنّ علم الله تعالى بالأشياء إنّما هو لذاته، ولم يكن شيء منه بمستفاد من أمر آخر، وكان علم مَن سواه إنّما هو مستفاد بالتعلَّم من غيره ثمّ غيره وغيره إلى أن ينتهي إلى علمه تعالى، وإن سمّي ذلك عالماً بحصول العلم له، فالله هو العالم المطلق الَّذي لا حاجة به في تحصيل العلم إلى أمر آخر؛ لأنّ غيره يستفيد بعلمه ويحصّله بعد ما لم يكن عنده.
المصادر:
(نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صالح: ص96؛ شرح نهج البلاغة، البحراني: ج2، ص171؛ بحار الأنوار، المجلسي: ج4، ص309).
مجلة اليقين، العدد (55)
[1] يس: 68.