كمال التصديق بالله توحيده

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«...أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه)[1].

توضيح كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقِّ الله جل وعلا:

قوله: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ»: لمّا كان الدين في اللغة هو الطاعة وفي العرف الشرعيّ هو الشريعة الصادرة بواسطة الرسل(عليهم السلام)، وكان اتّباع الشريعة طاعة؛ كان ذلك تخصيصاً من الشارع للعامّة بأحد مسمّياته، ولكثرة استعماله فيه صار حقيقة دون سائر المسمّيات؛ لأنّه المتبادر إلى الفهم حال إطلاق لفظة الدين، واعلم أنّ معرفة الصانع سبحانه على مراتب فأولها وأدناها أن يعرف العبد أنّ للعالم صانعا، والثانية: أن يصدّق بوجوده، والثالثة: أن يترقّى لتوحيده وتنزيهه عن الشركاء، والرابعة: مرتبة الإخلاص له، والخامسة: نفي الصفات عنه التي تعتبرها الأذهان له، وهي غاية العرفان.

قوله: «وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه»: يبين ظاهر الكلام أنّ كمال معرفة الله تعالى هو نفي الصفات عنه، وبيان ذلك أن المتصوّر لمعنى (إله العالم) عارف به من تلك الجهة معرفة ناقصة؛ تمامها الحكم بوجوده، ومن ضرورة كونه مُوجِد للعالم كونه موجودا، فإنّ ما لم يكن موجودا استحال بالضرورة أن يصدر عنه أثر موجود، وهذا هو كمال معرفته.

قوله: «وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه»: أي أنّ من صدّق بوجود واجب الوجود ثمّ جهل مع ذلك كونه واحداً كان تصديقه به تصديقاً ناقصاً، فالوحدة لازمة لوجود الواجب، فإنّ طبيعة واجب الوجود بتقدير كونها مشتركة بين اثنين فلا بدّ لكلّ واحد منهما ما يميزه لخاصية الاشتراك تلك، فيلزم التركيب في ذاتيهما وكلّ مركَّب ممكن؛ يلزمه الجهل بكونه واجب الوجود، وإن تصوّر معناه وحكم بوجوده.

قوله: «وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه». ففيها إشارة إلى أنّ التوحيد المطلق ألا يعتبر مع الله غيره مطلقا، وإلا عُدّ ذلك شِركاً.

قوله: «وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه»: فقد بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) صدقها بقياس برهاني أنّ كلّ من وصف الله سبحانه فقد جهله؛ لقوله (عليه السلام) شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فهو توطئة الاستدلال ببيان المغايرة بين الصفة والموصوف، والمراد بالشهادة هاهنا شهادة الحال بأنّ حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف وعدم قيامها بدونه، وحال الموصوف يشهد بالاستغناء عن الصفة وقيامه بذاته، فلا تكون الصفة نفس الموصوف حينئذ.

قوله: «فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه»: أي: لما كانت الصفة مغايرة للموصوف لزم أن تكون زائدة على الذات غير منفكَّة عنها فلزم من وصفه بها أن تكون مقارنة لها وإن كانت تلك المقارنة على وجه لا يستدعي زمانا ولا مكانا.

قوله: «ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه»؛ لأنّ من قرن الله سبحانه بشيء من الصفات فقد اعتبر في مفهومه أمرين أحدهما الذات والآخر الصفة فكان واجب الوجود عبارة عن شيئين أو أشياء فكانت فيه كثرة وحينئذ ينتج هذا التركيب أنّ من وصف الله سبحانه فقد ثنّاه.

وأمّا قوله: «ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه»: فظاهر أنّه إذا كانت الذات عبارة عن مجموع أمور كانت تلك الأمور أجزاء لتلك الكثرة من حيث إنّها تلك الكثرة وهي مبادئ لها، وضمّا لما تقدم ينتج أنّ من وصف الله سبحانه فقد جزّأه.

قوله: «ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه»؛ فلأنّ كلّ ذي جزء يفتقر إلى الجزء الآخر، وجزئه غيره فكلّ ذي جزء فهو مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى الغير ممكن فالمتصوّر في الحقيقة لأمر هو ممكن الوجود لا الواجب الوجود بذاته فيكون إذن جاهلا به، وضمّ هذه النتيجة إلى النتيجة السابقة ينتج أنّ من وصف الله سبحانه فقد جهله وحينئذ يتبيّن المطلوب وهو أنّ كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه إذ الإخلاص له والجهل به ممّا لا يجتمعان.

المصادر:

نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صالح: ص39.

شرح نهج البلاغة لأبن ميثم البحراني: ج1، ص119ـ 123.

مجلة اليقين، العدد (54)


[1] نهج البلاغة: خطبة 1.