ابتداء خلق السماء والأرض

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْحَمْدُ لِله الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَه الْقَائِلُونَ، ولَا يُحْصِي نَعْمَاءَه الْعَادُّونَ، ولَا يُؤَدِّي حَقَّه الْمُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لَا يُدْرِكُه بُعْدُ الْهِمَمِ، ولَا يَنَالُه غَوْصُ الْفِطَنِ...».

أنّ هذه الخطبة مشتملة على مباحث عظيمة ونكت مهمة، فابتداء الإمام (عليه السلام) بذكر الله جلّ جلاله وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله، فبدأ بتقديم حمد الله تعالى على الكلّ هاهنا وفي سائر خطبة (عليه السلام)، جرياً على العادة في افتتاح الخطب وتصديرها، وسرّ ذلك تأديب الخلق بلزوم الثناء على الله تعالى، والاعتراف بنعمته عند افتتاح كلّ خطاب لاستلزام ذلك.

والحمد كما هو معلوم يفيد معنى الشكر ويفيد ما هو أعمّ من ذلك، وهو التعظيم المطلق بجميع أقسامه.

فقوله(عليه السلام): (الذي لا يبلغ مدحته القائلون)، أراد من ذلك(عليه السلام) تنزيهه تعالى، وإطلاع العقول البشريّة على كيفيّة مدحه سبحانه، وبيان هذا الحكم أنّ الثناء الحسن على الشيء إنّما يكون كما هو إذا كان ثناء عليه بما هو كذلك في نفس الأمر، وذلك غير ممكن في حقّ الواجب الوجود سبحانه إلَّا بتعقّل حقيقته وما لها من صفات الجلال ونعوت الكمال كما هي، وعقول البشر قاصرة عن هذا المقام، فالقول وإن صدر عن المادحين بصورة المدح المتعارف بينهم؛ وعلى ما هو دأبهم من وصفه تعالى بما هو أشرف من طرفي النقيض، فليس بكمال مدحه في نفس الأمر؛ لعدم اطلاعهم على ما به يكون المدح الحقّ في حقّه تعالى.

قوله(عليه السلام): ولا يحصى نعماءه العادّون.

المراد أنّ جزئيّات نعم الله وأفرادها لا يحيط بها عدّ الإنسان لكثرتها، وبيان هذا الحكم بالعقل والنقل، فقوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا)[1].

فلا تحصى نعماؤه ولا تستقصي آلاؤه، وغاية هذا الحكم تنبيه الغافلين على لزوم شكر الله سبحانه، والاعتراف بنعمه المستلزم لدوام إخطاره بالبال.

قوله (عليه السلام): (ولا يؤدّي حقّه المجتهدون).

هذا الحكم ظاهر الصدق من وجهين:

الأول: لمّا كان أداء حقّ النعمة هو مقابلة الإحسان بجزاء مثله، وثبت أنّ نعم الله سبحانه لا تحصى لزم من ذلك أنّه لا يمكن مقابلتها بمثل.

الثاني: أنّ كلّ ما نتعاطاه من أفعالنا الاختياريّة مستندا إلى جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وسائر أسباب حركاتنا وهي بأسرها مستندة إلى جوده ومستفادة من نعمته، وكذلك ما يصدر عنّا من الشكر والحمد وسائر العبادات نعمة فتقابل نعمة بنعمة.

قوله (عليه السلام): (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن).

إسناد الغوص هاهنا إلى الفطن على سبيل الاستعارة، ووجه الاستعارة هاهنا أنّ صفات الجلال ونعوت الكمال الإلهية لمّا كانت في عدم تناهيها والوقوف على حقائقها وأغوارها تشبه البحر الخِضَمّ الَّذي لا يصل السائح له إلى ساحل، ولا ينتهي الغائص فيه إلى قرار، فواجب الوجود ليس بمدرك في الحقيقة، تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

المصادر:

نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صالح: ص39.

شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج1، ص123.

مجلة اليقين، العدد (53)


[1] النحل: الآية 18.