قدم الخالق

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: (الْحَمْدُ لِله الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، والْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ ولَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ، ولَا لَيْلٌ دَاجٍ ولَا بَحْرٌ سَاجٍ، ولَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ، ولَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ، ولَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ ولَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ، ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ ووَارِثُه، وإِلَه الْخَلْقِ ورَازِقُه، والشَّمْسُ والْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِه يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ ويُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ، قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وأَحْصَى آثَارَهُمْ وأَعْمَالَهُمْ، وعَدَدَ أَنْفُسِهِمْ، وخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ، ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، ومُسْتَقَرَّهُمْ ومُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الأَرْحَامِ والظُّهُورِ  إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ)[1].

  فكانت إشارة الإمام (عليه السلام) في مطلع خطبته: (الْحَمْدُ للهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ): هو أن معرفة سبحانه تكون بالتفكر والتدبر في خلقه وآثاره، بواسطة الفكر، لا بالرؤية البصرية والمشاهدة كتدبر أمورنا بواسطة الجوارح والآلات، وقوله (عليه السلام): (الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ)، فإنه سبحانه يقول: للشيء كن فيكون، أي يريد فيوجد المراد، ليس كمثله شيء طبيعي أو غير طبيعي، وانه يؤثر ولا يتأثر.

  وقوله (عليه السلام): (الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً) أي: بذاته غنيا عن غيره، ولا غنى لغيره عنه (دَائِماً) بلا ابتداء ولا انتهاء كما هو شأن الواجب أي الموجود بذاته لا بسبب خارج عنها.

وأما مقصد الإمام (عليه السلام) من: (إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ ولَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ...... ذُو اعْتِمَادٍ)، أي ان الله سبحانه كان ولم يكن معه شيء، لأنه المبدأ الأول لكل شيء، ولا بداية له وإلا كان حادثاً، ونفي الحجب عنه سبحانه من باب السلب بانتفاء الموضوع تماما كقولنا: ليس لله ولد، لأن معنى الحجاب نسبي يحتاج إلى اثنين: محتجِب ومحتجَب فإذا انتفى هذا بالفرض انتفى ذاك حتماً وذاتاً.

  وقوله (عليه السلام): (ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ ووَارِثُه)، فالبديع: هو الذي لا شبيه له ولا نظير، ومبتدع الشيء موجده من لا شيء، وعلى غير مثال سابق، وقد وصف الإمام (عليه السلام) الله سبحانه وتعالى بالوارث مع كونه المالك الأول والأصيل لكل شيء، وما من أحد يملك الا ما ملَّكه، لأنه قصد بكلامه الحي الباقي بلا نهاية لبقائه، لا أنه وارث لمن هو قبله.

وقوله (عليه السلام): (وإِلَه الْخَلْقِ ورَازِقُه)، عن طريق الكدح والعمل، فـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِه)[2].

  وقوله (عليه السلام): (والشَّمْسُ والْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِه)، أي: مستمران في تحقيق الفائدة منهما، وثابتان على قوانين وخصائص لا تتغير، ولولا هذا الاطراد والاستمرار في جميع الكائنات ما ثبت شيء في ميدان العلم، وبكلمة أصح ما كان للعلم عين ولا أثر، ونسأل من أين جاءت هذه القوانين والخصائص؟ من الطبيعة العمياء!؟ أو من الصدفة!؟ ونحن لا نفسر بالصدفة أفعالنا فكيف نفسر بها عظمة الكون ونظامه، فلا محيص حينئذ عن الايمان بالقوة الغيبية العليمة الحكيمة.

  وقوله (عليه السلام): (يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ ويُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ)، أي بمرور الأيام والسنين وتعاقبهما.

  وأما قوله (عليه السلام): (قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ)، أي على أساس سعي كل فرد، فلا يحابي ويعطي فردا دون آخر جزافا، وانما يتعامل معهم على وفق ما حدّد وشرّع، وهو لا يحدّد ويشرّع شيئا منافيا لمقتضى نواميس الطبيعة، ولأجل هذا ربط سبحانه صلاح الناس ونجاحهم بإخضاع سلوكهم وأعمالهم لنواميس كونية وأسباب طبيعية، فمن أهمل وعطَّل هذه الأسباب، وآثر البطالة على العمل، كان مسؤولا عن تقصيره وإهماله أمام الله.

  وقوله (عليه السلام): (وأَحْصَى آثَارَهُمْ وأَعْمَالَهُمْ.... إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ)، أي أحصاه الله سبحانه وتعالى بحساب دقيق فهو على كل شيء شهيد وحفيظ ووكيل، وانه أعلم بالشيء من نفسه، لأنه خالق كل شيء ومالكه، وأما تناهي الغايات: مصير الانسان من سعادة أو شقاء في اليوم الآخر من جنة ونعيم أو نار وجحيم[3].

مجلة اليقين، العدد (52)


[1] نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص122.

[2] الملك: 15.

[3] في ظلال نهج البلاغة، مغنية: ج1، ص453.