قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا، مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لأَخِيه غَفِيرَةً، فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلَا تَكُونَنَّ لَه فِتْنَةً فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ، فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ ويُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ، مِنْ قِدَاحِه تُوجِبُ لَه الْمَغْنَمَ ويُرْفَعُ بِهَا عَنْه الْمَغْرَمُ، وكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ الله إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعِيَ الله فَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لَه، وإِمَّا رِزْقَ الله فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ ومَالٍ، ومَعَه دِينُه وحَسَبُه، وإِنَّ الْمَالَ والْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وقَدْ يَجْمَعُهُمَا الله تَعَالَى لأَقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ الله مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِه، واخْشَوْه خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ، واعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ ولَا سُمْعَةٍ، فَإِنَّه مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ الله يَكِلْه الله لِمَنْ عَمِلَ لَه، نَسْأَلُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ ومُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، ومُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ)[1].
قصد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في ظاهر كلامه هذا أنّ كلّ ما يحدث من زيادة أو نقصان في معاش الخلق ومعادهم من صحّة أو مال أو علم أو جاه أو أهل يكون به صلاح حالهم؛ لأنّه صادر عن القسمة الربّانيّة المكتوبة بقلم القضاء الإلهيّ في اللوح المحفوظ، والذي هو خزانة كل شيء.
وأمّا تشبيه الإمام (عليه السلام) أن ذلك ينزل كقطر المطر، فوجه التشبيه: كما أنّ قطر المطر بالقياس إلى كلّ واحدة من البقاع كذلك حصول الرزق والأهل ونحوهما لكلّ نفس وحصتها منه مختلف بالزيادة والنقصان، فكل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، في المال والعمر والجاه والولد وغيره مرهون بما قسم الله له منها، وإن رأى أحدكم لأخيه زيادة في ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد، فإن الانسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة وقبيح يستحيى من ذكره بين الناس، ويخشع إذا قرع به، ويغري لئام الناس بهتك ستره به، كاللاعب بالقداح، المحظوظ منها، ينتظر أول فوزةٍ وغلبةٍ من قداحه، تجلب له نفعا، وتدفع عنه ضرا، كذلك من وصفنا حاله.
وليصبر ولينتظر إحدى الحسنيين، إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه، ويستأثر به، فالذي عند الله خير له، وإما أن ينسأ في أجله، فيرزقه الله أهلا ومالا، فيصبح وقد اجتمع له ذلك مع حسبه ودينه ومروءته المحفوظة عليه.
وأردف الإمام (عليه السلام) بالتنبيه على تحقير الأسباب التي ينشأ منها التنافس، ومنها النعم المذكورة، فذكر أعظمها وأهمّها عند الناس وهو المال والبنون، فإنّهما أعظم الأسباب الموجبة لصلاح الحال في الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى: (الْمالُ والْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا..)[2]، ونبّه على تحقيرهما بالنسبة إلى العمل الصالح بكونهما من حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة، وحرث الدنيا من الأمور الفانية، وحرث الآخرة من الأمور الباقية الموجبة للسعادة الأبديّة وقد يجمعهما الله لأقوام كما في قول الإمام (عليه السلام)، وحصول ذلك إنّما هو من الله دون غيره لمن يشاء من عباده، ثمّ أردف الإمام (عليه السلام) ذلك الأمر بالعمل الخالص لله البريء من الرياء والسمعة وهو إشارة إلى العبادة الخالصة له سبحانه، والمستلزم لتطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وقد ثبت بالعلم العملي والنظري أنّ الزهد والعبادة الخالصة لله تعالى توصلان إلى السعادة التامّة الأبديّة.
وقوله (عليه السلام): (فإنّه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له) هو تعليل لوجوب ترك الرياء والسمعة في العمل، فإنّ العامل للرياء والسمعة قاصد أن يراه الناس ويسمعوا بحاله، ومن ثم عود الفائدة عليه بمال أو جاه ونحوه من الأغراض الباطلة والزائلة، فيكون عمله بذلك محجوب عن قبول فضله من الله، ويوكله إلى من سواه ممّن عمل له العاملون لاستلزامه الخيبة والحرمان.
مجلة اليقين، العدد (50)