قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن الله جل وعلا قد ...، ثم فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ ورُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ ومُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ ولَا سَهْوُ الْعُقُولِ ولَا فَتْرَةُ الأَبْدَانِ ولَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ»
مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته أن الله سبحانه أراد تفصيل السماوات، والإشارة لها، وتمييز بعضها عن بعض بالفتق، وإسكان كلّ واحدة منهنّ مِلاءً معيّنا من الملائكة ثمّ عقّب ذلك بتفصيل الملائكة، ولا شكّ أنّ تقديم الإجمال في الذكر وتعقيبه بالتفصيل أولى في الفصاحة والبلاغة في الخطابة من العكس.
إذا عرفت ذلك فنقول:
قوله (عليه السلام): «فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا»، إنّ السماء والأرض كانتا شيئاً واحداً ملتزمتين، ففصّل الله بينهما في الهواء، أو إنّ معنى كون السماء رتقاً أنّها كانت لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً، أي: لا تنبت نباتاً، ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات، كقوله تعالى: (أَولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ والأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)[1].
وقوله(عليه السلام): «فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ»، الملائكة على أنواع كثيرة، ومراتب متفاوتة:
منهم الملائكة المقرّبون، وحاملو العرش، والحافّون حوله، وملائكة السماوات، وملائكة العناصر ومركَّبات المعدن، والنبات والحيوان، وملائكة الحفظة الكرام الكاتبين، وملائكة الجنّة وخزنتها، وملائكة النار وغيرهم.
تفريع وفائدة:
الملائكة ليس عبارة عن أشخاص جسمانيّة كثيفة تجيء وتذهب كالناس والبهائم، بل القول المحصّل فيها قولان:
الأوّل: إنّها أجسام نورانيّة إلهيّة خيّرة قادرة على التصرّفات السريعة والأفعال الشاقّة ذوات عقول وأفهام وبعضها أقرب عند الله من البعض وأكمل درجة.
الثاني: أنّها ليست بأجسام لكنّ منها ما هو مجرّد عن الجسميّة وعن تدبير الأجسام، ومنها من له الأمر الأوّل دون الثاني، ومنها من ليس بمجرّد بل جسمانيّ حالّ في الأجسام وقائم بها.
وقوله (عليه السلام): «مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ ورُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ، وصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ، ومُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ، لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ، ولَا سَهْوُ الْعُقُولِ، ولَا فَتْرَةُ الأَبْدَانِ، ولَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ».
ثم أنّه(عليه السلام) ذكر من الملائكة أنواعاً، وأشار لهم بالسجود تارة، وبالركوع أخرى، وبالصفّ، والتسبيح، منوّهاً إلى تفاوت مراتبهم في العبادة والخشوع، وذلك أنّ الله سبحانه قد خصّ كلَّا منهم بمرتبة معيّنة من الكمال في العلم والقدرة لا يصل إليها من دونه، وكلّ من كانت نعمة الله عليه أكمل وأتمّ كانت عبادته أعلى وطاعته، ثمّ إنّ السجود والركوع والصفّ والتسبيح عبادات متعارفة بين الخلق ومتفاوتة في استلزام كمال الخضوع والخشوع، ولا يمكن حملها على ظواهرها المفهومة منها.
إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قوله(عليه السلام) منهم سجود إشارة إلى مرتبة الملائكة المقرّبين؛ لأنّ درجتهم أكمل درجات الملائكة، فكانت نسبة عبادتهم وخضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود إلى خضوع الركوع.
ويؤيّد ذلك الجمع بين كونهم صافّين، وبين كونهم مسبّحين في قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)[2].
ويظهر الفرق بين الغفلة والسهو والنسيان، فهذه الأمور الثلاثة من لواحق القوى الإنسانيّة، فوجب أن تكون مسلوبة عن الملائكة السماويّة؛ لسلب معروضاتها عنهم، ولمّا ذكر سهو العقول ونفاه عنهم أردفه بسلب ما هو أعمّ منه وهو الغفلة؛ لاستلزام سلبها سلب النسيان، وقد كان ذلك كافياً في سلب النسيان إلَّا أنّه أضاف الغفلة إليه؛ ليتأكَّد سلبه بسلبها، وأمّا قوله ولا فترة الأبدان، فلأنّ الفترة هي وقوف الأعضاء البدنيّة عن العمل وقصورها بسبب تحلَّل الأرواح البدنيّة وضعفها ورجوعها للاستراحة، وكلّ ذلك من توابع المزاج الحيوانيّ فلا جرم صدق سلبها عنهم.
المصادر:
نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صالح: 41.
شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج1، ص132.
مجلة اليقين، العدد (12)