التقليد في العقائد

العقيدة مشتقّة من مصدر (عقْد) الذي يعني الإحكام والشدَّ والربط، وربطُ الشيء بشيء آخر يمكن أن يكون مادّيّاً حيناً كتطعيم برعم شجرة بشجرة أُخرى، ويمكن أن يكون معنويّا حينا آخر كزواج رجل بامرأة بواسطة عقد قران.

  فالعقيدة إذاً عبارة عن ذلك الشيء الذي يتّصل بذهن الإنسان وروحه، كتقبّل الذهن أنّ للكون خالقاً أو ليس له، أو كتقبّل الإنسان لفكرة الحياة بعد الموت أو لا، فتقبُّل أيّ نظرية - حقًّا كانت أم باطلاً - يعنى شد تلك النظرية إلى الذهن وربطها به.

ونعلم نحن أن عقائد الإنسان وتصديقاته هي المسار الأساس لجميع توجّهاته في الحياة، وهي صاحبة الدور الأعظم في الحياة الفردية والاجتماعية، فإن كانت صائبة مطابقة للواقع كان طريق حياة الإنسان صائبًا كذلك، وأمّا إذا كانت عقيدته فاسدة فإنّ طريق حياته مؤداه إلى التشتت والضياع والفشل، فما كان من الإسلام إلا أن وضع في سلم أولوياته تصحيح العقيدة قبل أيّ شيء آخر، فهي المعيار والميزان لتقييم الأعمال، وحتّى الأعمال الصالحة فإنّها تعتبر فاقدة لقيمتها ما لم تنبعث عن عقيدة صائبة! لقول الإمام الباقر (عليه السلام): (لا يَنفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالجُحودِ عَمَلٌ)[1]، فأوّل ما يسأل الإنسان عنه بعد مماته عن عقيدته: بأيّ إله آمن؟ وبأيّ دين اعتقد؟ وبأي نبي ووصي اتبع؟

  فنسأل الآن هل هناك تقليد في العقيدة أم لا؟

  قبل ذلك نسأل من أين ينبغي لنا أن نكتسب مبادئنا العقائدية؟ وهل يجيز لنا العقل تقليد الوالدين، أو العلماء، أو مَنْ نثق بهم في العقائد ام لا؟ أم يجب التحقيق فيها بنفسنا؟

  للإجابة عما تقدم نعرّف التقليد أولا: فكما نعلم هو عبارة عن تقبّل رأي الآخرين دون المطالبة بالدليل والبرهان وهذا لا ينفع، لذا اقتضى على الإنسان ضرورة تحصيل عقائده عن طريق التحقيق، فقبول نظريات الآخرين وآراءهم لا تصبح أهلاً للقبول، إن لم تكن محقّقة ومدعمة بالأدلّة والبراهين العقلية؟

  فكان أمر (العقل) بعدم السماح للإنسان مطلقًا بأن يصبح مقلِّداً في المبادئ العقائدية.

  فما من أتباع دين ما إلاّ ويعتبرون عقيدتهم صحيحةً منزّهةً عن كلّ خطأ، ويُخيَّلُ إليهم أنّ عقيدتهم وحدها هي العقيدة الصائبة المطابقة للواقع، ثم يعتبرون هذا الخيال عِلماً يقينياً.

  وأما من وجهة نظر الإسلام في صدد التقليد في العقائد أم لا ففيه تفصيل: فالعقائد كما نعرف من محاور الإسلام الأساسية، وهي تنقسم إلى قسمين: الأصول والفروع.

  فأُصول الدين المشهورة ـ الخمسة ـ عبارة عن المبادئ التي تشكّل القاعدة لمختلف المسائل الفقهية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهذه لا تقليد فيها وحرّم الإسلام ذلك.

  وأمّا فروع الدين فعبارة عن المقرّرات التي شرّعها الإسلام في تنظيم الصلة بين الإنسان وربّه من جهة، وبينه وبين الخلق من جهّة أُخرى، كالصلاة والصوم والخُمس والزكاة والحجّ وغيرها، فإنّ الإسلام لا يقتصر على جواز التقليد فيها فحسب، بل يوجبه، ومرجع التقليد فيها بصورة محدّدة هو النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام)، وفي حالة غيبة الإمام (عليه السلام) يكون مرجع التقليد الجامع للشرائط، بالنسبة لمن لم يتخصّصوا في استنباط الأحكام في المسائل الإسلامية من الكتاب والسنّة، وتحريم التقليد في أصول العقائد ظاهر في القرآن وفي النصوص الإسلامية بوضوح، وأصرَّ الإسلام على مطالبة الناس بالتحقق في مسائلهم العقائدية، وأن لا ينساقوا مع عقيدة أيّ كان إلاّ بالتدقيق والبرهان العقلي.

  فالباري عزّ وجلّ لم يطلب أبداً من الناس أن يستسلموا لكلامه - على سبيل المثال - فيما يختصّ بإثبات وجوده أو إثبات نبوّة أنبيائه استسلاماً تعبّديّاً تقليديّاً لا ينهض به برهان عقليّ، فسبحانه يستدلّ على إثبات كل ذلك بالأدلّة العقلية، ويدعو العقل الى التحكيم فيها، وطلب الدليل، كما ذُكر في كتاب الله تعالى: (هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ)[2].

  وفي آية أخرى كقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[3]، نلاحظ أن الآية توصي الإنسان باتّباع نداء الضمير وما يصدر عن العقل من أمر صريح وواضح في المسائل العقيدية، وتنهاه إيّاك والتقليد الأعمى، وما لم يتحقّق لديك الوعي بصحّته.

مجلة اليقين، العدد (51)

 


[1] الكافي: ج2، ص400.

[2] الأنبياء:24.

[3] الإسراء: 36.