التوبة: باب عظيم فتحه الله لعباده النادمين المنيبين له، وهو يسعُ كل آثم متكبر جبار مهما بلغ ذنبه وإثمه، فما عذر من أغفل دخول هذا الباب بعد فتحه؟
والتوبة من الأمور المُسلّم بها؛ لإن انسداد هذا الباب وغلقه فهذا يعني أن يخلد كل آثم وخاطئ في جهنم، ولأصر على آثامه وذنوبه لعدم الثمرة من تركها، فلا فائدة ولا رجوى من محاولة الخلاص منها، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[1]. وللتكلم عن التوبة يجب المرور بمراحلها، وآثارها وفوائدها فنقول:
إن للتوبة مراحل تبدأ بعد ان يعي الإنسان إسرافه في المعاصي والذنوب وتجرئه على الباري والتجاوز على أوامره ونواهيه، وهذا المحرك هو المعبر عنه بالضمير، عندها يصل الإنسان لحالة تدعوه الى التوبة والإنابة، وهي الشعور بالضيق والألم والانكسار وتعتصر قلبه الآهات والحسرات بسبب ما فعله من آثام وذنوب، فيشعر بالندم محاولا التخلص منه بأي وسيلة كانت، وبعد مرحلة الندم تأتي مرحلة الحسرة، وقد نوه عليها الله سبحانه وتعالى ونسبها لمن لم يجبر آثامه بالإنابة فقال: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ..)[2]، فلا حسرة تنفع يوم القيامة بسبب ما قدمت يداه، عندها يقول العاصي: (.. يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ..)[3].
وربما هناك مرحلة تأتي بعد الندم والحسرة ألا وهي مرحلة البكاء! فالبكاء ليس ضعفاً بل هو وسيلة من وسائل الصفاء النفسي الداخلي، لأن البكاء يطهّر ويغسل ما في النفس، ويزيل عن القلب الرين.
ولا بد من مزامنة تلك المراحل مرحلة العزم والإصرار على عدم العودة إلى الذنب أو المعصية مرة أخرى مهما كانت المغريات المحركة، وعدم الانسياق مع الشهوات والغرائز والمحفزات عندها نصل لمرحلة التوبة النصوح، والتي ذكرها الله في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..)[4]، ويجب على المرء إن كان إثمه او ذنبه قابلا للتصحيح والمعالجة فعليه جبره بذلك، وإن كان الذنب غير قابل للجبر بعدم المقدرة على أخذ براءة الذمة ممن وقع عليه الحيف لاستتباعه مشاكل جمة، توجه العبد المنيب حينئذٍ نحو الاستغفار واجتهد فيه.
فإذا تاب العبد ومر بتلك المراحل تاب الله عليه وشمله برحمته، قال تعالى: (.. ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..)[5].
فالتوبة هي باب الأمل، ولها من الفوائد والآثار كقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[6]، فظاهر الآية يدل على عدم اليأس من روح الله، فالله يغفر الذنوب جميعاً مهما كثرت، حتى لا يبقى على العبد شيء، فهو الغفور الرحيم، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)[7].
ولو لم يكن هناك باب توبة لطغى علينا اليأس، ولأصبنا بالخيبة والخذلان والإحباط، لكن باب التوبة بعث فينا أمل وإرادة التغير.
فالتوبة إذن تحولنا من عالم الخسران والهلاك إلى عالم الفوز والفلاح.
مجلة اليقين، العدد (48)