إن العلاقة بين الجهل والكفر حقيقة هي (العموم والخصوص من وجه) على حدّ تعبير المنطقيّين وذلك لإمكان أن يكون الإنسان جاهلاً ولا يكون كافراً، كما يمكن أن يكون كافراً ولا يكون جاهلاً، أو أن يكون جاهلاً وكافراً في الوقت ذاته.
ومعنى الكفر في اللغة: الإخفاء والستر، لذا يقال لكلّ من أخفى شيئا، أنّه كفره، ويطلق على فاعله أنه كافر.
والإخفاء نوعان: عيني واعتباري، فالإخفاء العيني كإخفاء بذرة تحت التراب، والاعتباري كإخفاء الحقّ بالباطل، أو الباطل بالحق، فكل إنسان أظهر شيئاً على خلاف علمه واعتقاده فعمله هذا يُحتسب كفراً ويطلق على الإنسان أنّه كافر، وكل من يعرف حقيقةً ويقول لا أعرفها، وكذلك من لا يعرف حقيقة ويقول أعرفها، فكلاهما كافر؛ لأنّ الأول قد أخفى علمه، والثاني قد أخفى جهله، أمّا من لا يعرف حقيقة ويصرّح بقوله لا أعرفها فهذا ليس بكافر، وإنما هو جاهل.
والكافر الذي ليس جاهلاً مَن يُنكر حقيقة مّا وهو يعرف حقّانيتها، لأنّه يعرف تلك الحقيقة، ومَثَله كمَثل مَن يَثبت له وجود الله تعالى بأدلَّة مؤكّدة واضحة ولكنّه لدوافع خاصّة يتلفّظ بإنكار وجوده تعالى، فهو على حدّ وصف الإمام علي (عليه السلام): (تَشْهَدُ لَهُ أعلامُ الوُجودِ عَلى إِقرارِ قَلبِ ذِي الجُحودِ)[1].
ومصداق ذلك فِرعَوْنُ وأتباعه، فأخبر القرآن عنهم أنّهم عرفوا الحقيقة بالأدّلة والبراهين الواضحة من جانب نبي الله موسى (عليه السلام) لإثبات وجود الله تعالى ونبوّته (عليه السلام) ولكنهم أبوا الاعتراف بالحقيقة المتيقنة وأنكروا وجود الله تعالى بدافع الاستعلاء والاستكبار، وهذا ما قاله القرآن عنهم: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[2].
فأخفى فرعون وأتباعه علمهم وحجبوا الحقيقة بستار الكفر وهذا هو مصداق الكافر غير الجاهل، وأما مصداق الجاهل الذي ليس كافراً هو من لا يعرف حقيقة مّا ولا يدّعي بأنّه يعرفها فهو جاهلٌ وليس كافراً، فمن لا يبدي رأيا فيما لا يعرف أو يعترف بجهله فيه هو جاهلٌ وليس كافراً؛ لأنّه لم يُخفِ شيئا، والكفر هو الإخفاء، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الخصوص: (لَو أنَّ العِبادَ إِذا جَهِلوا وَقَفُوا ولَم يَجحَدوا لَم يَكفُروا)[3].
معنى ذلك أنّ الكفر يتحقّق نتيجة لإنكار حقيقة مجهولة، فإذا امتنع الإنسان عن إبداء الرأي في أمر لا يعرفه وانتهى عن إنكاره فهو ليس كافراً بتلك الحقيقة؛ لأنّه سواء اعترف بجهله أو أمسك عن إبداء الرأي لم يخف شيئا، وعليه فإنّ مثل هذا الجاهل ليس كافراً وإن لم يكن مؤمنا.
وأما الجاهل الذي لم يخف جهله لما كان كافراً، فإن أخفى الجاهل جهله فقد اجتمع فيه الجهل والكفر، وعليه فإنّ الجاهل الكافر هو من يبدي رأيه فيما لا يعرف.
فمنكري وجود الله عزّ وجلّ حتّى لو افترضنا جدلاً أنّهم أتوا بأدلّة صحيحة فإنّهم ما برهنوا في النهاية إلاّ على شيء واحد، هو أنَّ الإنسان لا يجد سبيلاً لمعرفة ما وراء المادة، أي: ليس في مقدوره أن يفهم ما إذا كان هناك شيء آخر وراء الطبيعة المحسوسة أم لا، ولو أنّهم اعترفوا بجهلهم لم يكونوا كفّاراً، ولكنّهم لا يقفون عند عدم الاعتراف بجهلهم فحسب، بل يتجاوزونه إلى قطاف ثمرة الجهل، ممّا يعتبرونه في نظرهم على أنّ ذلك هو العلم، فيتّخذون من جهلهم أساسا لنظريّتهم بالنسبة للمسائل الميتافيزيقية، فإذا برأيهم أنّه لا وجود لشيء أصلاً إلاّ للطبيعة المحسوسة، وهنا يتواءم الجهل والكفر، فيخفي الإنسان جهله بعلم مزعوم.
وهنا سؤال ضروريٌّ: هل التحقيق في أيّ مورد يحتّم الوصول بالضرورة إلى الواقع ومعرفة الحق؟
والجواب: إنَّ للمعرفة موانع وشروطًا، فلو أنّ الباحث أو المحقّق قد أزال موانعها وحقّق شروطها لتوصّل بالضرورة إلى النتيجة المنشودة، ولا كان جاهلاً ولا كان كافراً.
مجلة اليقين، العدد (47)