معرفة الله بالله

  للرواة والمحدّثين والحكماء آراء شتّى في طرق معرفة الله جل شأنه وإن اختلفت ظاهراً، لكنّها مضموناً لا خلاف فيما بينها، فما يُستشفّ من كلامهم بعد التأمّل في آرائهم نلاحظ أنّ المعرفة الحقيقيّة بالله سبحانه تتيسّر بالله نفسه، وليس بالإمكان لأحد أن يعرّفه للنَّاس حقّ تعريفه كتعريفه بنفسه جل شأنه.

  كما ورد عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان ـ زمان غيبة القائم (عليه السلام) ـ أي شيء أعمل؟ قال (عليه السلام): (يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء، اللهمَّ عَرِّفني نَفسَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَم تُعَرِّفني نَفسَكَ لَم أَعرِف نَبِيَّكَ، اللهمَّ عَرِّفني رَسولَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَم تُعَرِّفني رَسولَكَ لَم أَعرِفْ حُجَّتَكَ، اللهمَ عَرِّفني حُجَّتَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَم تُعَرِّفني حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِيني..)[1]، ومن هنا بيّن الله سبحانه وتعالى على طريق هداية النَّاس له، كما قال في كتابه الكريم: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى)[2]، فكيف يُعرّف الله نفسه للنَّاس، ويهديهم إِليه؟

  إن الله تعالى قد هيّأ للبشر أَنواع الآلات والأَدوات والإمكانيّات الداخليّة والخارجيّة لمعرفته بكلّ طريق متيسّر، ومن هنا قيل في تفسير كلام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): (اعرفوا اللهَ باللهِ، والرَّسولَ بالرِّسالةِ، وأُولي الأَمرِ بالأَمرِ بالمعروفِ والعَدْلِ والإِحْسانِ)[3]، فإن عرفنا الله بعقولنا فهو واهبها؛ وإن عرفناه بأنبيائه ورسله وحججه (عليه السلام) فهو باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججاً؛ وإن عرفناه بأنفسنا فهو خالقها، فبذلك كانت معرفة الله بالله، فما أَودع الله في داخل وجود الإنسان لمعرفته، هو فطرة معرفته، وما جعل في خارج وجوده، هو الوحي والأنبياء، ومهمّتهم هي هداية الفطرة والعقل، وإزالة الموانع والحجب التي تحول دون معرفة الله من بصائرهم.

 وأما طرق معرفة الله بالله فعديدة نذكر بعضها وفقاً لمراتب المعرفة به:

1ـ معرفةُ اللهِ عن طريقِ الآثارِ:

  يُعرّف الله سبحانه الإنسان بنفسه من خلال إراءَتِه آثار علمه وقدرته وحكمته في نظام الوجود، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أنه قال لرجل: (أيُّهَا الرَّجُلُ، تَحتَقِرُ الكَلامَ وتَستَصغِرُهُ! اعلَم أنَ اللهَ عزَّ وجلَّ لَم يَبْعَث رُسُلَهُ ـ حَيثُ بَعَثَها ـ ومَعَها ذَهَبٌ ولا فِضَّةٌ، ولكِن بَعَثَها بِالكَلامِ؛ وإنَّما عَرَّفَ اللهُ ـ جَلَّ وعَزَّ ـ نَفسَهُ إِلى خَلْقِهِ بِالكَلامِ وَالدَّلالاتِ عَلَيهِ وَالأَعلامِ)[4].

2ـ مَعْرفةُ اللهِ عنْ طريقِ التَّنْزيهِ والتَّقْديسِ:

  فتقديس الخالق سبحانه وتنزيهه عن مشابهة مخلوقاته هو معرفته بنفسه.

 فعن عليِّ ابن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ بِما عَرَّفَني نَفسَهُ، قيلَ: وكَيفَ عَرَّفَكَ نَفسَهُ؟ قالَ: لا يُشبِهُهُ صُورَةٌ، ولا يُحَسُّ بِالحَواسِّ، ولا يُقاسُ بِالنّاسِ...)[5].

3ـ مَعْرفةُ اللهِ عنْ طريقِ الشُّهودِ القَلْبيّ:

  وأوضح مصداق لمعرفة الله بالله هو معرفته بواسطة الشهود القلبيّ، إذ إنّ استطالة الشيء بنفسه تُغني عن وصفه، وبزوغ الشَّمس دليل عليها.

  وكما ورد في صُحُف إِدريس (عليه السلام): (.. بِالحَقِّ عُرِفَ الحَقُّ، وبِالنّورِ أُهتُدِيَ إِلَى النّورِ، وبِالشَّمسِ أَبصرت الشَّمس..)[6].
  ومن وفقّه الله للنفور نحوه بخطوات ثابتة ولم يصطحب معه علقة الدنيا، تجلّى له عندها الحق المتعالي قبل كل شيء، وتتراءى على قلبه مقامات الصفات الإلهية، فيعرف الله عندئذ بالله.

مجلة اليقين، العدد (45)

 


[1]  الكافي: ج1، ص337.

[2] الليل: 12.

[3] الكافي للكليني: ج1، ص85.

[4] الكافي للكليني: ج8، ص148.

[5] الكافي: ج1، ص84.

[6] البحار: ج96، ص466.