البكاء في الشعائر الحسينية

سنتناول موضوعَ البكاء من كتاب (الشَّعائرُ الحُسينيةُ بينَ الأَصالةِ والتَّجْديدِ) بشيءٍ من التصرّف، والذي يتعرض فيه المؤلف إلى مكانة البكاء في الشعائر الحسينية.

يعتبر البكاء من عُمدة أقسام الشعائر الحسينيّة - كما في كلمات الفقهاء والمحقّقين والمؤرّخين - بل نستطيع أن نسمّيه الشريان الدمويّ للعديد من الأقسام في الشعائر الحسينيّة، مثلاً: انظر إلى الخطابة، أو إلى الشعر أو النثر أو الرثاء، أو التمثيل - الشبيه - أو انظر إلى اللطم والعزاء أو لبس السواد، فإنّ كلّ هذه المظاهر المختلفة من الشعائر الحسينيّة، حينما تريد أن تتألّق وتحلِّق وتبلغ ذروتها تصل إلى حدّ البكاء.

حقيقة البكاء:

إنّ البكاء مادة حيويّة للبحث في عدّة علوم، مثل علم النفس، والاجتماع، والأخلاق والفلسفة وعلم التّمدن والحضارة، قد شغل حيزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة، وبمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول: أنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة، وقد ورد ممدوحاً في القرآن الكريم في عدّة آيات، نكتفي ببعضها:

1- قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[1]، فالقرآن يُثني على ظاهرة البكاء التي تنشأ من دَرْكِ الحقيقة، أي: أنّه يمدح التأثّر والتحسّس العاطفيّ الذي يكون البكاء مظهراً من مظاهره.

2-   قال تعالى: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للاَذْقان سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ للاَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)[2]، فالله تعالى مدحهم لأجل البكاء والتأثّر، ولو كانوا يستمعون فقط لِما أُنزل من الوحي ولا يبكون، فلن يكون لديهم خشوع، والخشوع الذي هو ذروة الحالات النفسيّة العمليّة.

3-   قال تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم * قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[3]، القرآن يخلّد ذِكر يعقوب(عليه السلام)، ويخلّد فعله لنا، ويعطينا قُدوة نموذجيّة وأمثولة للاقتداء به في هذا التفاعل العاطفيّ، هذا البكاء والتشوّق لنبيّ آخر هو من أبنائه ليس تشوّقاً إلى كمالٍ زائل، وإنّما هو تشوّق لنبوّة نبيّ آخر، فالغاية سامية، والتأثّر لأجل صلة الرحم.

أما الروايات التي ذكرت البكاء فهي كثيرة، نقتصر على المهم منها:

1-   قال ابن الأثير وغيره: لمّا رأى النبي(صلى الله عليه وآله) حمزة قتيلًا بكى، فلمّا رأى ما مُثّل به شهق[4].

2-   وذكر الواقدي: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يومئذٍ (يوم أحد) إذا بكت صفية يبكي، وإذا نشَجت يَنشج، (قال:) وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول اللهُ(صلى الله عليه وآله)[5].

3- بكاء النبي(صلى الله عليه وآله) على جعفر بن أبي طالب (النص والاجتهاد، للسيد شرف الدين: 297)، وعلى ولده إبراهيم[6]، وغيرها من الروايات التي تشير إلى البكاء.

اعتراض:

ورد في الأخبار والروايات أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد منع الفواطم أو العقائل من شق الجيوب، وخمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء.

هذا النهي في الواقع مُغيّى ومُعلَّل، عندما أخبر الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين(عليه السلام): «مَهْلًا لا تُشْمِتي القَوْمَ بِنَا»، حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى، لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسيّ في معسكر الحسين (عليه السلام).

أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبْت شِدّة الحُزن فهي: نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين(عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظُلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أَنّ الذي أَوْصل صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالم، وأنجح نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليه السلام) وخُطبها.

مجلة اليقين، العدد (42)

 


[1] المائدة: 82-82.

[2] الإسراء: 107 – 109.

[3] يوسف: 83- 86.

[4] أسد الغابة: ج2، 48.

[5] النص والاجتهاد، السيد شرف الدين: ص293.

[6] صحيح البخاري: كتاب الجنائز: باب قول النبي: إِنَّا بِكَ لَمحزونونَ.