التوحيد أساس دعوة الأنبياء (عليهم السلام)

إن التوحيد ونبذ الشرك من أهم المسائل الاعتقادية التي تصدّرت المفاهيم والتعاليم السماوية على الإطلاق، ويُعدُّ أساساً لسائر المعارف الإلهية التي جاء بها أنبياء الله ورسله (عليهم السلام).

وهي من المسائل التي اتفق عليها جميع المسلمين، فهم عن بكرة أبيهم يوحّدون الله سبحانه من حيث الذات، والفعل، والعبادة.

فالله سبحانه واحد في ذاته لا نظير له في الوجود ولا مثيل، كما أنه هو المؤثّر والخالق الواقعي في كل ما نُسميّه مؤثراً وخالقاً، فلو كان هناك مؤثر سواه أو خالق غيره، فإنما يؤثر ويخلق بقدرته سبحانه وإرادته.

كما أنه هو المعبود الوحيد لا معبود سواه، ولا تحل عبادة غيره على الإطلاق، كل ذلك مما يؤيده الكتاب والسُّنّة والعقل والإجماع.

ولا بد أن ننوه أن للتوحيد مراتبَ قد فصّلها العلماء في كتبهم الكلامية والاعتقادية، نحاول أن نتعرض لها، ونردف كل مرتبة بما يدل عليها من القرآن الكريم إن شاء الله تعالى.

الأولى: التوحيد في الذات.

والمراد منه أن الله سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل كما نوهّنا، بل لا يمكن أن يكون له نظير أو مثيل، ويدل عليه قوله سبحانه: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[1].

وقوله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)[2].

وقوله سبحانه: (هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[3].

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى واحد لا نظير له ولا مثيل، ولا ثانٍ له ولا عديل.

الثانية: التوحيد في الخالقية.

أي أنه ليس في الوجود خالق أصيل غير الله، ولا فاعل مستقل سواه سبحانه، وأن كل ما في الكون من كواكب وأرض وجبال وبحار، وعناصر ومعادن، وسحب ورعود، وبروق وصواعق، ونباتات وأشجار، وإنسان وحيوان، وملك وجن، وكل ما يطلق عليه أنه فاعل وسبب، فهي موجودات غير مستقلة التأثير، وأن كل ما ينتسب إليها من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال، وإنما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه، فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة لله، فإليه تنتهي العِليّة، وإليه تؤول السببية، فهو معطيها للأشياء، وهو مُجرِّدُ الأشياء من آثارها إن شاء.

ويدل على ذلك قوله سبحانه: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ)[4].

وقوله سبحانه: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)[5].

الثالثة: التوحيد في الربوبية والتدبير.

والمراد منه أن للكون مدبراً واحداً، ومتصرفاً واحداً في شؤونه لا يشاركه في التدبير شيء، وهو الله سبحانه، وأن تدبير الملائكة وسائر الأسباب بعضها لبعض إنما هو بأمره سبحانه، وهذا على خلاف ما كان يذهب إليه بعض المشركين، حيث كان يعتقد أن الذي يرتبط بالله تعالى إنما هو الخلق، والإيجاد، والابتداء، وأما التدبير فقد فُوِّض تفويضاً مستقلاً إلى الملائكة، والجن، والأجرام السماوية، والموجودات الروحية التي كانت تحكي عنها الأصنام المعبودة، والقرآن الكريم ينص بمنتهى الصراحة على أن الله هو المُدبّر للعالم، وينفي أي تدبير مستقل لغيره، وأنه لو كان هناك مدبر سواه فإنما يدبر بأمره، قال سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[6]، وقال تعالى: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[7]، فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً)[8]، هو المدُبّرات بأمره وبإرادته، فلا ينافي ذلك انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.

ومن كان مُلمّاً بما في القرآن الكريم فإنه يعرف بأن الله سبحانه ينسب كثيراً من الأفعال إلى نفسه تارةً، وينسبها إلى غيره في تارةً أخرى، وهذا لا يلزم منه أي تناقض أو تناف، لأن الحصر على ذاته إنما هو على وجه الاستقلال (بمعنى عدم الحاجة إلى الغير)، وغيره على وجه غير الاستقلال، بعنوان أنه مظهر أمره سبحانه، ومنفذ إرادته[9].

مجلة اليقين، العدد (36)

 


[1] الشورى: 11.

[2] الإخلاص: 1-4.

[3] الزمر: 4.

[4] الأنعام: 102.

[5] المؤمن: 62.

[6] يونس: 3.

 [7]الرعد: 2.

[8] النازعات: 5.

[9]  المصدر: التوحيد والشرك للشيخ السبحاني: ص5-9.