حياة ما بعد الموت

تعتبر الحياة ما بعد الموت من الغيبيَّات التي لا يُمكن التَّكهُّن بماهيتها، فضلاً عن التنبُّؤ بحوادثها وإرهاصاتها، ويطلق على هذه الحياة باسم الحياة البرزخية، ولا نعلم منها إلّا ما ثبت بخصوصها، وجاء ذكره وبيان تفاصيله عنها، ولمّحت به الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، فالبرزخ فترة مجهولة، وحقيقته غير واضحة المعالم ولا نعلم عنه الشيء الكثير، فالمعنى اللغوي للبرزخ هو: الفاصل بين الشيئين، أو الحاجز من اختلاطهما وامتزاجهما[1]، كقوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * َبيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ)[2].

وأما المعنى الاصطلاحي للبرزخ: فهو مرحلة تفصل ما بين الدنيا والآخرة، كما هو حال الفترة ما بين الموت والبعث، فهو الحياة ما بعد موت الإنسان إلى يوم القيامة، فقال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[3].

فالموت ليس نهاية الحياة، ولا تنعدم الحياة به، بل ينتقل الإنسان بواسطة الموت من حياة عالم الدنيا إلى حياة عالم آخر يسمى بعالم البرزخ، والذي يتوسط بين عالمي الدنيا والآخرة، وأول منازل هذه الحياة البرزخية القبر، فعن عمرو بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): وما البرزخ؟ قال(عليه السلام): «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»)[4]، وله أحوال وأهوال أولها ضمّة القبر أو ضغطته والتي لا يسلم منها عبد قط.            

والبرزخ عالم مخصوص يختلف عن الحياة الدنيا ويختلف عن الآخرة أيضا، ويَرِدُ على هذه المرحلة جميع البشر بعد موتهم، ففيه تبدأ مرحلة جديدة تتصف بالحساب على ما أسلفه الإنسان في الحياة الدنيا، وسؤال الملكين منكر ونكير(عليهما السلام)، فيتم من خلاله تحديد مصير العبد، فقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البرزخ: القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة»[5]، فيرى العبد مقعده من الجنة ويُفسّح له في قبره إن كان عبداً صالحاً مات على العقيدة القويمة بحب محمد وآل محمد(عليهم السلام)، فيبقى منعّما مكّرماً، وكذا حال الشهداء فيصفهم القرآن الكريم بكونهم: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم منْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[6].

ويُضيّق على الميت إن كان طالحاً فيعذب، فيكون قبره حفرة من حفر النار، يرى حرّها وعذابها إلى يوم يبعثون، فعن الإمام زين العابدين(عليه السلام) قال: «إن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران»[7]، فيصف الله سبحانه الحياة البرزخية للكافرين والمجرمين بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب)[8]، فالآية تحكي على أن آل فرعون يُعرضون على النار صباحاً ومساءً قبل يوم القيامة، وأما ما بعدها فيقحمون في النار، لقوله تعالى المتقدم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[9]، ومع ذلك تبقى هنالك الكثير من الحقائق التي لا يعلمها إلّا الله تعالى، ولا يدركها إلّا الميت نفسه بعد مواجهتها.

والجدير بالذكر هنا أن حالة النعيم التي يعيشها المؤمنون في الحياة البرزخية رغم أهميتها وكونها من قبيل نِعم الجنة، لكن لا ترقى لمستوى نِعمها، وكذلك عذاب العصاة والكافرين في البرزخ رغم كونه عذاباً أليماً إلّا انه بالقياس إلى ما سيلاقونه من عذاب الآخرة في نار جهنم لا يُعدّ شيئاً.

مجلة اليقين، العدد (35)

 


[1] لسان العرب لابن منظور: ج3، ص8.

[2] الرحمن: 19 ـ 20.

[3] المؤمنون: 100.

[4] الكافي للكليني: ج3 ص242.

[5] البحار، للمجلسي: ج6، ص218.

[6] آل عمران: 170.

[7] البحار، للمجلسي: ج6، ص214.

[8]غافر: 46.

[9] غافر: 46.