يكفي لطالب الحق والحقيقة أن يرمي ببصره وبصيرته نحو الآفاق وفي نفسه -متأملاً- ليجد أن الدلائل الموصلة للحق تعالى (كماً وكيفاً) لا حدَّ لها ولا حصرَ، فعندما يجول فكر الإنسان في خلق السماوات والأرض فيرى الإبداع والإتقان، ويتأمل في خلق المخلوقات من أصغرها إلى أكبرها، بدءاً من خلق الكواكب، والمجرات، والحيوانات، والنباتات، وانتهاءً بذرات الرمال والكائنات الدقيقة، فضلاً عن خلق الإنسان، تتجلى دلائل قدرة الله تعالى في بصر وبصيرة المتأمل المتفكر، وتذعن النفس لله الواحد القهار، لأن شعاع البرهان، ونور الدلائل على الله تعالى قد سطع في قلوب ذوي الألباب، وأشرق في صدورهم، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[1].
خذ واحدةً من تلك الدلائل البديعة على قدرة الله تعالى وجمال صنعته وهو الإنسان، فهذا الكائن العجيب بتركيبته، الدقيق في خلقته، كيف خلقه الله تعالى؟ وكيف طوره؟ وكيف أنشأه الله تعالى خلقاً آخراً؟ قال تعالى: (وَلَقَد خَلَقنَا لإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلنَٰهُ نُطفَة فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقنَا لنُّطفَةَ عَلَقَة فَخَلَقنَا لعَلَقَةَ مُضغَة فَخَلَقنَا لمُضغَةَ عِظَٰما فَكَسَونَا لعِظَٰمَ لَحما ثُمَّ أَنشَأنَٰهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ للَّهُ أَحسَنُ لخَٰلِقِينَ)[2]، ثم أودعه الأصلاب، وأخرجه خلقاً سوياً، ووفر له الأمان والغذاء، وبعد بلوغه كلّفهُ بالواجبات، وألهمه الفكر والتدبير، وعلّمه المنطق الفصيح والرأي الراجح، لتحصيل المطالب، واكتساب المآرب، حتى إذا بلغ أودعه قوّة وقدرة على المعاش، بعد أن شقّ له بصراً ليتمتع من خلاله برؤية عجائب خلق الله ودليلاً لمعرفته، فقال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)[3]، كما شقّ له سمعاً ليميز به، كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[4]، وخلق له يداً للبطش، ورجلاً للمشي، فسبحان الله الذي خلق الخلائق على خير قوام، ولو تأمل الإنسان في كل ذلك؛ لأنبأه هذا النظام بخالق قادر لا يعارض، وعالم بحقائق الأشياء، فهو: (..يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[5]، ولو افترضنا أن هناك ضعفاً في خلق تلك الأشياء لبان ذلك الضعف فيها، وكان فساداً لنظام الكون، ولتساقطت تلك التوافقات.
مجلة اليقين، العدد (28)