في الثامن من شهر ربيع الأول عام 260 للهجرة المباركة كان العالم الإسلامي والموالي خصوصاً قد فجع فجيعة كبيرة برحيل واستشهاد الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وبهذه المناسبة الأليمة لا بأس أن نعرج على معالم هذه الشخصية المهمة، وعلى التخطيطات المستقبلية لتهيئة الأمة على تقبّل غيبة مهدي الأمم (عليه السلام).
ولد الإمام العسكري (عليه السلام) في اليوم العاشر من ربيع الثاني سنة ۲۳۲هـ، في المدينة المنوّرة، وأُمّه السيّدة سَوْسَن المغربية، وهي جارية، وزوجته السيّدة نرجس خاتون بنت يشوع بن قيصر الروم، وهي أيضاً جارية، وعمره (28) سنة، وإمامته (6) سنوات، وقد عاصر من الحكام المعتَز، والمهتدِي، والمعتمِد، وقتل الإمام (عليه السلام) مسموماً على يد الأخير في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة 260هـ في (سر من رأى).
كانت حياة الإمام (عليه السلام) مفعمة بالعبادة والإخلاص لله، وهكذا هي سيرتهم (عليهم السلام)، فهم المنصبون بأمره سبحانه؛ فكانوا قدوة حسنة للخلق أجمعين، وقد روي أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) عندما أُودع السجن من قبل المعتمد العباسي، وكّل به رجلان من الأشرار بقصد إيذائه، فتأثّرا به وأصبحا من الفضلاء، فقيل لهما: «ويحكما ما شأنكما في هذا الرجل؟ قالا: ما نقول في رجلٍ يصوم نهاره، ويقوم ليله كلّه، ولا يتكلّم، ولا يتشاغل بغير العبادة، وإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا، ودخلنا ما لا نملكه من أنفسنا؟»[1]
وفي زمنه (عليه السلام) تحددت معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال النشاطات العلميّة، إذ قام (عليه السلام) بإعداد ثلة من الرواة والتلاميذ؛ لنشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وما قام به من مراسلات ومحاورات وأجوبة على المسائل المختلفة، وما روى من أحاديث، وبث من علوم ومعارف، فقد نقلت عنه (عليه السلام) ذلك كتب الأحاديث والتفسير والمناظرة وعلم الكلام وغيرها، فكان (عليه السلام) كآبائه (عليهم السلام) أُستاذاً للعلماء، وقدوة لسالكي طريق الحقّ، وزعيماً للسياسة، وعلماً يُشار إليه بالبنان، وتأنس له النفوس، وتكنّ له الحبّ والموالاة، فكان من ذلك أن اعترف به حتّى خصماؤه، فهذا أحمد بن عبيد الله بن خاقان واحد منهم، يصفه ببعض جوانبه، إذ يقول: (ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا في هديه وسكونه، وعفافه ونبله، وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس)[2].
وأهم ما قام به (عليه السلام) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي (عليه السلام) من أيدي العتاة والمجرمين، الهادفين لمحو نسل أهل البيت (عليهم السلام)، فكانوا يتربصون به الدوائر قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام (عليه السلام) بفضل جهود آبائه السابقين (عليهم السلام) وتحذيراتهم تنصبُّ أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال، الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام (عليه السلام).
فقد أشارت الروايات الى أنه (عليه السلام) ابن سيدة الإماء، وأنه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، وبالفعل فقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام (عليه السلام)، فإنّ عمّة الإمام (عليه السلام) السيدة الجليلة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) لم تتعرّف على حمل أُم الإمام المهدي (عليه السلام) فضلاً عن غيرها.
وأما بشأن الولادة المباركة فقد يُستفاد من بعض النصوص أن وقت الولادة كان قبيل الفجر، وواضح أنّ لهذا التوقيت أهمية خاصة في إخفاء الولادة; لأن عيون السلطة عادةً تغط في نوم عميق، وكما يُستفاد من بعض الروايات أنه لم يحضر الولادة سوى السيدة حكيمة بنت الجواد (عليه السلام) التي لم تكن تعرف بتوقيت الولادة بشكل دقيق أيضاً.
وقام الإمام العسكري (عليه السلام) بجملة من الأمور الممهدة لغيبة الإمام المهدي (عليهما السلام) عن الأمة، وكان أولها: كتمان أمره خلال خمس سنوات إلا من ببعض خواص الشيعة ومخلصيهم، وربطهم به عن كثب، وتكليفه مسؤولية الإجابة على أسئلة شيعته المختلفة، وإخباره عمّا في ضميرهم وهو في دور الصبا، أو حتى في المهد، من دون أن يتلكّأ في ذلك، وهذا خير دليل على إمامته.
ثم قام الإمام العسكري (عليه السلام) بطرح فكرة النيابة، وهي عدم الارتباط بالقيادة بشكل مباشر، وإنما يكون عن طريق وكلاء الإمام العسكري (عليه السلام)، والذين أصبحوا فيما بعد وكلاء للإمام المهدي (عليه السلام) في فترة الغيبة الصغرى.
مجلة اليقين، العدد (44)