(فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين)[1]، إن قول موسى (عليه السلام) سبحانك تبت إليك من أن أسألك الرؤية وأنا أول المؤمنين بأنك لا تُرى، فعن محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) أن موسى (عليه السلام) علم أن الله تعالى لا تجوز رؤيته، وإنما سأل الله أن يشرفه برؤيته بسبب تساؤل قومه حين ألحوا عليه في ذلك، فسأل موسى ربه من غير أن يستأذنه، فقال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)[2]، فأجابه تعالى (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)[3]، ومعناه أنك لا تراني أبداً لأن الجبل لا يكون ساكنا متحركا في آنٍ أبدا، وهذا مثل قوله تعالى (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)[4]، ومعناه أنهم لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يلج الجمل في سم الخياط أبداً، وبعدها ورد قوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)[5]، أي ظهر للجبل بآية من آياته وتلك الآية نور من الأنوار التي خلقها الله ألقى منها على ذلك الجبل فــ(جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)[6]، من هول ما ألّم به وتزلزل ذلك الجبل على عِظمه وكبره فلما أفاق موسى (عليه السلام) (قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ)[7]، أي رجعت إلى معرفتي بك عادلا عما حملني عليه قومي من سؤالك الرؤية، ولم تكن هذه التوبة من ذنب؛ لأن الأنبياء لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً فهم معصومون، ولم يكن الاستئذان قبل السؤال بواجب عليه، لكنه كان أدباً يستعمله متى ما أراد أن يسأل ربه، وروي أن موسى (عليه السلام) قد استأذن في ذلك فأُذن له ليعلم قومه أن الرؤية لا تجوز على الله، وقوله (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[8]، أي وأنا أول المؤمنين من أولئك القوم الذين كانوا معي بأنك لا تُرى، والأخبار التي رويت في هذا المعنى كثيرة ومعتمدة، فمعنى الرؤية الواردة في الأخبار أن الدنيا دار شكوك و ارتياب، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما تزول به الشكوك، ويعلم حقيقة قدرة الله سبحانه، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[9]، فما روي في الحديث أنه عز وجل يُرى ويُعلم علما يقينا، كقوله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)[10]، أنها رؤية قلبية وليست رؤية عينية، وأما قوله تعالى:
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)[11]، فمعناه لما ظهر عز وجل للجبل بآية من آيات الآخرة التي تكون بها الجبال سرابا والتي تنسف نسفاً، فتفتت الجبل فصار ترابا لأنه لم يطق حمل تلك الآية، وقد بدا له من نور العرش، فقول أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية الكريمة: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)[12]، أي (ساخ الجبل في البحر فهو يهوي حتى الساعة)[13].
مجلة اليقين، العدد (9)