أفعال الإنسان

شرعت البحوث الكلامية بسبر غور مسألة (الجبر والاختيار) وهي من أقدم بحوث الكلام، وللبحث أنحاء ثلاثة، فالنحو الأول هو موضوع إنساني، وفي الثانية موضوع إلهي، وفي الثالثة يكون نحواً طبيعياً، فإذا كان موضوعُ البحث مختصاً بالإنسانٍ فيكون السؤال هل الإنسان مختار أم مجبور؟ فهذا موضوع إنساني، وإذا كان البحث منصبّاً على موضوعِ القضاءِ والقدرِ و إرادة اللّه تعالى في جعل الإنسان حراً أم مجبوراً فتلك مسألة إلهية، وإذا كان البحث متجهاً إلى نظامِ العلةِ و المعلولِ والعوامل ِالطبيعيةِ الأخرى في سلبِ حريةِ الإنسان أم لا فتلك مسألة طبيعية، ولكنها على أية حال مسألة إنسانية مختصة بمصير الإنسان، و لما كان القرآن يدعو إلى التدبر و التفكير فقد توجه المسلمون وبعمق نحو البحث في الجبر والاختيار شاءوا ذلك أم أبوا، فالبحث في الجبر و الاختيار يؤدي بذاته إلى البحث في العدل؛ فهناك رابطُ مباشرُ بين الاختيارِ والعدلِ من جهة، والجبرِ ونفيِ العدلِ من جهة أخر ى، وعلى العموم  فنسبةُ فعلِ الإنسانِ الصادر عنه، يكون منسوباً إليه تارة، أو إلى الله تارة، أو لله والإنسان  معاً تارةً أخرى، والإنسانُ بحكم ما يمتلكه من عقل وتفكير امتاز بهما عن سائرِ المخلوقات لا يخلو من أن يفكر-حال صدور الفعل عنه - فينسب إليه أو لغيره، ترى هل هو الذي هيأ مقدمات الفعل وأسبابه ووسائله وأدواته بتصميم معين وتصور محدد، ثم أقدم عليه برغبة وعزم واختيار، أو انه لم يكن قد خطط ولا أعدّ لكل هذا، وإنما هكذا بلا أدنى سابقة أقدم على الفعل وتحقق منه خارجاً، أو أنه كان نسبةُ بين هذا وذاك؟ ومن هنا حدث الاختلاف بين المسلمين فكان في المسألة ثلاثة أقوال: فاعتقد بعضهم أن التفسير المناسب لأفعال الإنسان هو القول (بالجبر) وذلك لأجل التحفظ على أمور في غاية الخطورة لاتصالها بعقيدة المسلم، كقدرةِ الله المطلقة وسلطانهِ العظيم الواسع، وكونهِ عز و جل الخالق لكل شيء ولا خالقَ سواه، مستفيدين هذا بزعمهِم من بعضِ الظواهر القرآنية كقوله تعالى: (وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[1]، أو قولهِ تعالى: (الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[2] وغيرِها، وعلى هذا الأساس فالجبر يعني نفي أية نسبة بين الإنسان وفعله، لأنه يكون مسلوبَ الاختيار في أفعاله، وإن أي فعل منه لا يُعد انعكاساً لرغباته وميوله واتجاهاته وما يمتلكه من شخصية أو ملكات، إذ ليس له أدنى تأثير في صدور الفعل عنه، فهو آلة لا غير، وأعتقدَ آخرون بنقيضِ ذلك تماماً، ورأوا أن الحقَّ في المسألة هو القول بالاختيار، وذلك لأجل التحفّظ على أمور أخرى لا تقلُّ خطورةً عن التي تحفَّظَ عليها الجبريون، وهو العدلُ الإلهي ؛ إذ ليس من العدلِ أن يؤاخذ الله عبدَه على فعلٍ كان مجبوراً عليه ولا طاقةَ له على تركهِ، فهم يرون أنَّ اللهَ عز وجل خلقَ العبادَ وأوجد فيهم القدرةَ على الأفعال، وفوض إليهم الاختيار في ما يشاؤون  أو يَدَعون من أفعالٍ، وهذا يعني استقلال العبدِ في إيجاد الفعل على وفق ما أودعَ فيه من قدرة وإرادة، وإنه ليس لله سبحانه أيُّ أثرٍ في فعلِ العبد الصادر عنه، إذ لولا استقلاله بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف ولكان الثواب والعقاب ظلما، وقد حاولَ أصحابُ هذا الاتجاهِ الإفادةَ من ظواهرِ القرآنِ أيضا كقولهِ تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[3]، وذهب اتجاهٌ ثانٍ إلى أن في آيات القرآن الكريم ما يُضادُ القولَ بالجبرِ صراحةً، كقولهِ تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[4]، وفي آيات أخرى ما يبطل الاختيارَ، كقوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله)[5]، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ  تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ الله)[6]، وهنالك قولٌ ثالثٌ وسطٌ بين الجبرِ والاختيارِ، وهو ما يُعرَف ب‍ (الأمر بين الأمرين)، مأخوذاً من كلماتِ أئمةِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، وهو في الوقتِ نفسهِ لا يمسُّ قضاءَ اللهِ تعالى وقدرتهَ وسلطانهَ وعدلهَ، كما يحافظُ أيضا على نسبةِ الفعل الصادر عن الإنسان إلى الله تعالى وإلى الإنسان أيضا، وأستفيد أيضاً من بعضِ الآياتِ الكريمة كقوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن َنفْسِكَ)[7]، فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق و فعل العبد لما صح معنى نسبة الحسنة الصادرة من العبد إلى الله عز وجل، فعنِ الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): (إن الله أرحمُ بخلقهِ من أن يُجبِرَ خلقهَ على الذنوبِ ثم يعذِّبَهُم عليها، والله أعزُّ من أن يريد أمراً فلا يكون، فسُئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسعُ مما بين السماءِ والأرض)[8]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله:(أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين أمر بين أمرين لا جبر و لا تفويض)[9]، فالله عز وجل لم يُطع بإكراه، ولم يُعص بغلبة، حتى نقول بالإجبار تارة أو بالاختيار أخرى بل هو أمر بين أمرين.  والحمد لله رب العالمين.

مجلة اليقين، العدد (5)

 


[1] الصافات: 96.

[2] الزمر: 62.

[3] الزلزلة: 8.

[4] الطور: 21.

[5] البقرة: 251.

[6] يونس: 100.

[7] النساء: 79.

[8] الكافي للكليني ج1ص159.

[9] الشريف المرتضى ج1ص135.