إن التقية حكم شرعي يستمد قوته الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولعلَّ أهم ما يتصف به الإنسان المؤمن من مراتب الإيمان هو (التقوى)، وهو اتقاء عذاب الله، ونيرانه المعدة لغير المؤمنين المتقين، فالتقوى في الحقيقة هي اتقاء من فعل الإنسان نفسه، إذ يخضع لمعادلة كونية، هي (الإحسان جزاء الإحسان) و (العذاب جزاء الشر).
والتقية قرين التقوى وهما من جذر واحد، فقد قال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ)[1].
وأما الأدلة القرآنية الدالة على إمضاء التقية، فهنالك الكثير من الآيات التي دلت على إمضائها ومنها ما يتعلق بجواز الكفر بالله تقية وذلك في قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِالله مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[2]، فقد نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الأولى من عصر صدر الإسلام، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الأصابع، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يعلم أن التقية قد أبيحت للمسلمين أيضا في بدايات الإسلام الأولى، وأنها أبقيت على ما كانت عليه في الأديان السابقة، ولم تنسخ في الإسلام، بل جاء الإسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً؛ لكي يتدرع بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تدرع بها - من قبل - أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم، وصرح به سائر المفسرين.
فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم، وقد علق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور، بقوله: ((أي: وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال جائزة، لقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)[3].
ومن الجدير بالذكر ما صرّح به فقهاء الفريقين ومفسروهم من جواز التقية بين المسلمين أنفسهم استناداً إلى طائفة أخرى من الآيات الكريمة من قبيل قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[4]، فقد استدل الفخر الرازي بهذه الآية على وجوب التقية في بعض الحالات، لقوله: ((يتوجب ارتكاب المحرم بالنسبة لمن أكره عليه بالسيف، ويعدّ امتناع المكره حراماً؛ لأنه من إلقاء النفس إلى التهلكة، مع أن صون النفس عن التلف واجب استناداً إلى هذه الآية، ولا معنى لوجوب ارتكاب المكره للمحرم في غير التقية))[5].
ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[6]، والحرج هو الضيق لغة، والتقية عادةً ما يكون صاحبها في حرج شديد، ولا يسعه الخروج من ذلك الحرج بدونها، ومنه أيضا قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[7]، فقد جاء في تفسيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام) بالتقية، فقال (عليه السلام): ((التي هي أحسن: التقية))[8].
أدلة التقية في السنة الشريفة:
إذ تضمنت السنة النبوية أحاديث عديدة تدل على إمضاء التقية، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن الجَدر «الجَدر والحِجر بمعنى واحد، والمراد: حِجر الكعبة المشرفة» أمن البيت هو؟ قال: نعم. فقلن: فمالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إنَّ قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولو أن قومك حديثو عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِلَ الجَدر في البيت وأن ألصق بابه في الأرض))[9].
ومن هذه الرواية يعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتقي قومه في عدم رد الحِجر إلى قواعد إبراهيم (عليه السلام) مخافة أن تنفر قلوبهم، لحداثة عهدهم بالكفر وقربهم من شرك الجاهلية، وعلى حد تعبير العلامة السندي في حاشيته على سنن النسائي: ((إن الإسلام لم يتمكن في قلوبهم، فلو هُدمت لربما نفروا منه!))[10].
ولهذا نجد محاولة ابن الزبير في تهديم الكعبة وإعادة بنائها وإدخال الحجر في البيت قد باءت بالفشل، إذ هدم عبد الملك بن مروان ما بناه ابن الزبير وأخرج الحجر من البيت ليعيده إلى ما كان عليه في عهد من لم يتمكن الإسلام يوماً في قلوب أكثرهم[11].
يضاف إلى ذلك، ما أخرجه الترمذي - وحسّنه - بسنده عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق))[12].
ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقية أوضح من أن يحتاج إلى بيان؛ لأن ما يخافه المؤمن من تهديد ووعيد الكافر أو المسلم الظالم؛ لا شك أنه يخلق شعوراً لديه بامتهان كرامته لو امتنع عن تنفيذ ما أريد منه، لأنه معرض - في هذه الحال - إلى بلاء، فإن عزم على اقتحامه وهو لا يطيقه، فقد أذلّ نفسه، هذا مع أن بإمكانه أن يخرج من هذا البلاء بالتقية شريطة أن لا تبلغ الدم؛ لأنها شُرّعت لحقنه. ونختم حديثنا بقول الإمام الباقر (عليه السلام): ((إنّما جعلت التقية ليُحقَن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية))[13].
مجلة اليقين، العدد (2-3)
[1] آل عمران: ۲۸.
[2] النحل:16.
[3] سنن ابن ماجة ۱ :53، 150.
[4] البقرة: 195.
[5] الفخر الرازي: التفسير الكبير۲۱:۲۰
[6] الحج: آية ۷۸.
[7] فصلت: 34.
[8] أصول الكافي: 2/ 218، 6 باب التقية..
[9] صحيح البخاري ۲: 190/1584.
[10] حاشية العلامة السندي على سنن النسائي 5: 214..
[11] مسند أحمد ۷: 360/25620.
[12] سنن الترمذي4: 522/2254.
[13] أصول الكافي 2: 174/16.