قاضٍ من نار

في ظلّ أحداث القرن الحادي والعشرين، ونحن نرى الَمدَنية وتطورها، ولوازم قوامها وبقائها، ومنها انتشار المحاكم القضائية في أرجاء البلاد إسلامية كانت أم غيرها، للبتّ في المخاصمات والاختلافات، ولكنّنا نرى بعض المجتمعات من البدو في صحراء مصر الشرقية بمناطق ومحافظات سيناء والإسماعيلية والشرقية، تلجأ لتحكيم غريب يُسمى (البِشْعَة) ـ وهي قطعة حديدٍ على هيئة صحن مثبّت بعتلةٍ أخرى، لحملها، أو وضعها على النار دون إيذاء حاملها ـ لحلّ النزاعات، والاتهامات، والفصل في قضايا الشرف وإثبات النسب، وحوادث القتل والسرقة، دون توفّر الأدلّة على إدانة المتّهم أو براءته، فهي وسيلة تهدف إلى إظهار الحقيقة التي غالباً ما يتعذر بيانها بوسيلة أخرى، فتكون البِشْعَة حكما بين المتخاصمين، ومن أشهر القرى الممارسة لها قرية (سرابيوم) بمحافظة الإسماعيلية المصرية، وفيها أشهر (المُبشعون) ـ أشخاص متخصصون في تنفيذ طريقتها ـ، وآلية ذلك بأن يجلس المتخاصمان أمام النار والجمر الملتهِب، وتوضع (البِشْعَة) على تلك النار حتى تصبح قطعةً حمراء، فيقوم (المبشع) الى تقريبها من وجه المتهم بعد أداء القسم على كونه بريئاً من التهمة الموجّهة إليه، حتى يلعقها بلسانه، فإذا أحدثت البشعة أذىً في لسان المتّهم وسلخته كان مذنباً، ويعاقب، وينجو من العقاب إن لم تسلخ لسانه، وعُدّ بريئاً، فهي تعمل عمل (جهاز كشف الكذب).

وعن طريق الُمبشع، تحسم القضايا العَسِرة ويُعَدّ قاضياً لا تُردّ كلمته، كما أنّ مهنته وراثية، تحتكرها بعض القبائل المعيّنة، وفي العادة يكون من (رجال الدين)، ويعتبرونه من الصالحين الأتقياء، لأن البشعة في معتقد القبليين لها جانب روحي وديني، وتُعقد البشعة فى بيت المبشع، أو على مقربة منه، فيشد الخصوم الرحال له مهما طال السفر بهم، ونفقات المبشع والسفر يتحملها الطرف الخاسر، وقد أُثبت علميا أن فكرتها تعتمد على أن لسان الإنسان الطبيعي عليه سوائل كالريق واللعاب فيمتص حرارة الحديد الساخن فيتأثر تأثرا بسيطا، اما الجهاز العصبي للشخص المتهم يجعل لسانه جافا من تلك السوائل، فعندما يتعرض لسانه للكوي ينسلخ.

مجلة ولاء الشباب العدد (29)