المُحَافَظَةُ عَلَى النِّعَمِ الإلهيَّةِ
السؤال: ما معنى كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَـلاَ تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ)(نهج البلاغة، محمد عبده: ج3، ص154)؟
الجواب: إنّ النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده كثيرة، منها ظاهرة ومنها باطنة، قال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)(لقمان:20).
ومن خلال هذا الكلام القرآني ينبغي المحافظة على هذه النعم الإلهية لأن الواهب والمعطي هو الله تعالى، وقد يفقد العبدُ بعضَ هذه النعم ولا تعود إليه، فعبّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عنها بأطراف النعم، أي يريد أن يقول: إنّ أقلَّ نعمةٍ ينبغي شكرها حتى لا تزول عن العبد، قال الإمام علي (عليه السلام): (احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ، فَمَا كُلُّ شَارِد بِمَرْدُود)(نهج البلاغة، تحقيق محمد الدشتي، ص351)، فمن الصعوبة رجوع النعمة على العبد إذا نَفَرَتْ منهُ.
ونرى تشبيهاً عظيماً من أمير المؤمنين (عليه السلام) للنعمة في كلامه: (النِّعْمَةُ وَحْشِيَّةٌ قَيَّدُوهَا بِالشُّكْرِ فَإِنَّهَا إِذَا شُكِرَتْ قَرَّتْ، وَإِذَا كُفِرَتْ فَرَّتْ)، فالإنسان إذا لا يشكر الله تعالى أو قَلَّ شكرُه على أية نعمة ينعم بها عليه سبحانه وكفر بها زالت عنه.
ففي كلام الإمام (عليه السلام): (فَـلاَ تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ) إيماء إلى أنّ دوامَ الشكرِ مستلزم لدوام النعم وكثرتها كقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(إبراهيم:7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المزاحُ المذمُومُ
السؤال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِه مَجَّةً)(نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج20، ص100)؟ كيف يمكن للانسان أنْ يحافظ على هيبته؟
الجواب: قد يحتاج الإنسان في بعض أوقاته إلى أن يمازح أخاه المؤمن، ولكن لا يجعل من نفسه مزحة أمام الناس، ويتحول بالتالي إلى أداة ترفيه وضحك دائمية، مما يقلّل ويضعّف من شخصيته، لأنَّ الاسلام لا يريد من الإنسان أن يكون مهرجاً، بل تكون له هيبة أمام الآخرين، فالمزاح يقتضي عدم الجدية وهو حالة تنفيس عن الكبت والمتاعب النفسية، وبالتالي يجرّ إلى الاستهزاء والكذب، مما يؤدي هذا إلى أنَّ الإنسان كلما مزح مزحة مجّ من عقله أي رمى به.
فالإمام (عليه السلام) يصور لنا هذه الصورة البلاغية العظيمة؛ وهي الكناية عن مجِّ الشراب لما يستكرهه الإنسان إذا كان مرّاً مثلاً، فقال: (مَجَّ مِنْ عَقْلِه مَجَّةً) أي رمى جزءاً من عقله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهُدَى بِالقُرْآنِ
السؤال: ما هو معنى كلام أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) في نهجِ البلاغةِ: (فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ، أَتَمَّ نُورَهُ، وأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وقَبَضَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) وقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ). نهج البلاغة: الخطبة178.
الجواب: ذكر الإِمام (عليه السلام) في كلامه أَعلاه صفات مهمّة للقرآن الكريم، جامعةً كافيةً شافيةً لبيان أَهميّة القرآن ومنزلته الرفيعة، فقوله (عليه السلام): (آمِرٌ زَاجِرٌ،) أَي: للقرآن أَوامرٌ ونواهٍ، (وصَامِتٌ نَاطِقٌ) أَي: أَنّه ساكت في الظاهر إِلّا أَنّ حقيقة الأَمر أَنَّه تحدّث بمئة لسان، وأماط اللثام عن الحقائق. (نفحات الولاية، ناصر مكارم الشيرازي، ج7، ص64).
وقوله (عليه السلام): (حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ) أَي: يحتجُّ بالقرآن على خلقه يوم القيامة.
وقوله (عليه السلام): (أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ) إِشارة إِلى العهد الذي أَخذه اللهُ وأَنبياؤُهُ من المؤمنين حين الإِيمان بالتوحيد والنُّبوّة، وأَما قوله (عليه السلام): (أَتَمَّ نُورَهُ) أَي: الفيض الإِلهي الذي يشمل العباد بالقرآن.
وقوله(عليه السلام): (وأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ) إِشارة إِلى الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) المائدة:3، التي كمل بموجبها الدين بنزول القرآن وأَمر الولاية.
وقوله (عليه السلام): (أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ) أَي: بواسطة القرآن يُهدى الخلقُ، قال أَميرُ المؤمنين(عليه السلام): (كِتابُ اللهِ تُبصِرونَ بِهِ، وتَنطِقُونَ بِهِ، وتَسْمَعُونَ بِهِ) نهج البلاغة: الخطبة 133.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهَمُّ نِصْفُ الهَرَمِ
السؤال: ما هو المراد من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (الْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ(1)) (شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج18، ص341)؟
الجواب: يدعو الإمام (عليه السلام) في كلامه أعلاه إلى الصبر، وتحمل أعباء الحياة، وعدم التأثر بالمصائب والمصاعب والمشاكل، من فقدِ عزيزٍ أو مرض يلمّ به، أو حالة نفسية يمرُّ بها؛ فينبغي على المؤمن أنْ يستثمر هذه الحالات ويوظفها لما تقتضيه مصلحته في العيش بصورة سليمة وصحيحة، فيتكامل إلى أرقى ما يمكن أن يصلَ إليه الإنسان.
وفي المقابل فإنَّ عدم التفاعل الصحيح مع المشاكل الحياتية يؤدي بالإنسان إلى حزنه وتأثره بصورة مباشرة، وبالتالي قد يؤثِّر هذا على نفسيَّتِهِ مما يكون غير متحمِّلٍ للأمراض البدنية، فيَسقُمُ بدنُهُ وتنهارُ قواهُ الداخلية، قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ سَقُمَ بَدنُهُ)(أمالي الطوسي: ص512).
فالإمام علي (عليه السلام) في كلامه: (الهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ) يعالجُ الحالة النفسية للانسان واستقرارها، فاذا استقرَّتْ نفسُهُ استقرَّ بدنُهُ، وبعكس ذلك يهرمُ الإنسان بسرعة، وهذا ما أثبته الطب الحديث من تأثير الحالات النفسية بشكل مباشر على البدنِ، حيث يقول الأطباء أكثر أسقام الابدان تأتي من الحالة النفسية للشخص، ولذلك أهل البيت (عليهم السلام) يعطون الدواء قبل الداء، قال الإمام الكاظم(عليه السلام): (كَثرَةُ الهَمِّ يُورِثُ الهَرَمِ)(البحار، المجلسي: ج75، ص 326).
(1)الهرم: كِبَرُ السِّنِّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انْقِطَاعُ اللَّذَّاتِ وبَقَاءُ التَّبِعَاتِ
السؤال: ما معنى قول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (اذْكُرُوا انْقِطَاعَ اللَّذَّاتِ وبَقَاءَ التَّبِعَاتِ)(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص257، ط مطبعة الإستقامة).
الجواب: يُذكِّرُ الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) الإنسان بكيفية توازن أعماله الحياتية التي يعيشها ويمارسها في كل يوم، فيدعوه إلى أنْ يُفكِّرَ كثيراً بما ينوي القيام به من أعمال ممنوعة عليه من قبل الله سبحانه شرعاً أو ممنوعة عرفاً وقانوناً.
ومن الطبيعي كُلُّ انسانٍ يتحمل تَبِعَة(1) أعمالِهِ سواء كانت خيراً أم شراً، فيكون مسؤولاً عن تصرفاته الشخصية أمام الآخرين، فإذا لم تكن حسب الموازين الشرعية أو العرفية أو القانونية سيكون في وضع حرج، ومحاسب على ما تصرّف به، وينبغي عليه ارجاع الحقوق للناس، بينما لو توازن في تصرفاته، ولم يتجاوز الحدود المرسومة له كإنسان واعٍ مثقف محافظ على سمعته الاجتماعية كان آمناً من المحاسبة والمسائلة أمام الله وأمام الناس.
وهذا هو المعنى الدقيق الذي يُريد أنْ يُبَيِّنُهُ الإمام(عليه السلام) في قوله: (اذْكُرُوا انْقِطَاعَ اللَّذَّاتِ..) فإنَّ اللذّة سريعاً ما تنقطع وتنتهي، (وبَقَاءَ التَّبِعَاتِ) أي تبقى التبعة على الإنسان تلازمه طول حياته من جراء فعل أو عمل لا ترتضيه الاعراف أو القوانين الالهية أو الوضعية.
(1) التَبِعَةُ بفتح فكسر: حقّ اللهِ وحقّ الناسِ عنده يُطالب بِه. (نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص256).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّهُ بَايَعَنِي القَومُ
السؤال: قالوا: إنّ عَلِيَّاً (عليه السلام) يوافق المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) فيما يذهبون إليه من أنّ طريقَ تحديدِ الخليفةِ هو الشورى، ويستدلون على هذا من قوله (عليه السلام) في النهج: (إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ...)(نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: رسالة6، ص581).
الجواب: إنَّ الإمام (عليه السلام) كان في مقام الاحتجاج بأمر مسلَّم عند الخصم ـ وهو معاوية ـ، على قاعدة (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)، فإنّ معاوية خرج عن طاعة الإمام (عليه السلام) مع اعتقاده بخلافة مَنْ تقدّم، فالإمام (عليه السلام) يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي عليّ والطاعة لهم، ولو لم يكن الإمام (عليه السلام) في مقام الجدل وافحام الخصم، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر كلامه (عليه السلام) وجهٌ. (بحوث في الملل والنحل، الشيخ جعفر سبحاني: ج6، ص194).
مع أنّ للإمام(عليه السلام) كلمات في النهج تؤكد أنّه لم يكن راضياً بما جرى من أمرِ الخلافة، وكان دائم الشكوى من ذلك، منها قوله: (اللّهُمَّ إنّي أستَعديكَ عَلى قُرَيشٍ ومَن أعانَهُم، فَإِنَّهُم قَطَعوا رَحِمي، وصَغَّروا عَظيمَ مَنزِلَتي، وأجمَعوا عَلى مُنازَعَتي أمْراً هُوَ لي) (نهج البلاغة: الخطبة170).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أَهْلُ الدُّنْيَا
السؤال: ما معنى كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: (أَهْلُ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ)(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص165)؟
الجواب: يدعو أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه هذا إلى عدم ركون الإنسان إلى الدنيا والاغترار بها، والابتعاد عنها مهما امكن، وأخذ الحاجة منها ما يُكتفى به، قال الإمام علي (عليه السلام): (الدُّنيا تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ)(نهج البلاغة: ص548، ط دار الكتاب اللبناني)، أراد (عليه السلام): تغرُّ أي بزينتها، وتضرُّ أي لمحبتها، وتمرّ أي بفراقها من المرارة.
ودار الدنيا هي محطة عبور إلى الدار الآخرة، يتزود الإنسان فيها بما ينفعه من الاعمال الصالحة فيما بعد عند فقره واحتياجه في آخرته، فتنقضي أيام الإنسان وهو لا يشعر، فيغفل عن الموت فتفوت الفرصة عليه في التقرب إلى الله تعالى.
فهنا الإمام (عليه السلام) في كلامه: (كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ) يشبِّه حالَ أهل الدنيا تشبيهاً رائعاً وهو: حال المسافرين النائمين في واسطة نقل تقطع المسافات بهم وهم نيامٌ، لا يعلمون ولا يدرون إلى أين يصلون، حتى ينتبهوا من نومهم، فيَرونَ أنّ المحطة التي أرادوها ولم يحسبوا لها حساباً قد عبروها وتجاوزوها، ففاتت عليهم فرصة حطِّ رحالهم فيها، قال ابن أبي الحديد: (هذا التشبيهُ واقعٌ، وهو صورة الحال لا محالة)(شرح نهج البلاغة: ج18، ص209).
فالحياةُ الأبديةُ هي دار الآخرة، قال (عزوجل): (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ)(الروم:64).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أَهْلُ القُرْآنِ ونَهْجُ البَلاغَةِ
السؤال: ما هو المقصودُ من كلامِ أَميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) في نهجِ البَلاغةِ: (تَالِينَ لأجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعَاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقَاً، وظَنُّوا أَنَّها نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ..)(نهج البلاغة، محمد عبدة: الخطبة191).
الجواب: هذا المقطعُ جزءٌ من خُطبةِ المُتّقينَ التي ذَكَرَها الإِمامُ (عليه السلام) لصاحبهِ هُمَام (أو: هَمَّام)، وقدْ وصفَ فيها الإِمامُ (عليه السلام) كثيراً من صِفاتِ المتقينَ، منها: علاقةُ المتّقينَ بالقرآنِ؛ لأَنّهم هم أَهلُ القُرآن.
فقولُهُ (عليه السلام): (تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا)، أَي: (أَنّهم يقرأون القرآن بصيغة الترتيل، الذي يعني التأمّل والتدبُّر في مفاهيمِ القُرْآن) نفحات الولاية، ناصر مكارم الشيرازي: ج7، ص418.
وقولُهُ(عليه السلام): (يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ)، أي: (يَسْتَجْلِبونَ لها الحُزْنَ بالقرآنِ، وقولُهُ(عليه السلام): (ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ) إِشارةٌ إِلى البُكاءِ، فإِنهُ دَوَاءُ داءِ الحَزِينِ). تهذيب شرح نهج البلاغة، عبد الهادي الشريفي: ج1، ص626).
وأَمّا قولُهُ (عليه السلام): (فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ..)، فهؤلاءِ تتهيّجُ في قلوبِهم نِيرانُ الشَّوقِ، حَيْثُ البِشَارة الإِلهيّة، وهذا ما يدفعُهُم إِلى التقرّبِ من اللِه تَعَالى.
وقولُهُ (عليه السلام): (وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ..)، أَي: قد بلغَ إِيمانُهم مرحلةَ الشُّهود، وكأَنَّهم يرونَ جَهَنّمَ بأَعيُنِهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِئْسَ الزَّادُ
السؤال: هل لكم أنْ تُبَيِّنُوا لنا كيف يكون (بئس الزاد) يوم القيامة في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (بِئْسَ الزَّادُ إِلَى المَعَادِ، الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ)(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص202، ط مطبعة الاستقامة)؟
الجواب: لابد للانسان أنْ يتعايش سلمياً مع قرينه الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فينبغي عليه أنْ لا يتعدى على العباد مهما فُعِلَ بِهِ؛ لأنَّ الظلمَ أقبح شيءٍ في الوجود، وهو يجعل الظالم ليس له ولي ولا نصير، قال تعالى: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (الشورى:8).
ومن هنا جاء ذمُّ العدوان على العباد - وهو الظُلم الصراح- في كلام الامام علي (عليه السلام) أعلاه، فهو يدعو (عليه السلام) إلى عدم التعدي على حقوق الاخرين، لأنَّ الظلم في الواقع هو أخسّ ما يحمله العبد في سفره إلى الآخرة والمعاد، ويُسائَلُ حينها أمامَ الله سبحانه، والمفروض أنَّ العبد يحمل الأعمال الحسنة يوم القيامة لكي يتخلص من النار، قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(هود:113).
والشيء الأهم والأعظم والأخطر -ولعله يظهر من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أعلاه- هو أنَّ الظالمَ يشتركُ معه في الإثمِ المعينُ لَهُ والراضي بِهِ، قال الإمامُ الصَّادِقُ (عليه السلام): (العامِلُ بالظُلمِ والمُعينُ لَهُ والراضِي بهِ شُرَكاءُ ثَلاثَتُهُم)(الكافي، الكليني: ج2، ص333، ح 16).
ومن هنا ينبغي أنْ لا نُقابِلَ الظلمَ بالظلمِ، بل اللجوء إلى الطرق المشروعة لاستنقاذ الحقوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَركُ الطَمَعِ
السؤال: نرجو توضيح كلامِ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اِسْتَشْعَرَ اَلطَّمَعَ)(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص152، الحكمة2)؟
الجواب: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يبين من كلامه للناس تعاليم القرآن الكريم وما جاء به من إرشادات وتوجيهات للمجتمع، وكيفية التعايش في هذه الدنيا، وعدم سعي الإنسان خلفها، ففي كلام الامام (عليه السلام) أعلاه إرشاد إلى الابتعاد عن الطمع بكل أشكاله، فهو يقول (عليه السلام): (أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اِسْتَشْعَرَ اَلطَّمَعَ) أي أنْقَصَ قيمةَ نفسِهِ أمامَ الناسِ وأهانها وحقّرها، قال المازندراني: (أي احتقر بنفسه من جعل الطَّمَعَ شعاراً له)(شرح الكافي: ج9، ص3).
إنّ الطمع قد يؤدي بالإنسان والعياذ بالله إلى الهلكة، وهذا ما نراه في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) وهي وصية للإنسانية: (وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ)(خصائص الأئمة(عليهم السلام)، الشريف الرضي: ص116)، فالإنسان لا يأخذ من الدنيا إلَّا نصيبه وقسمه وسهمه، فإذا ركن إلى الطمع جعل نفسه عبداً له، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لايَسْتَرِقَّـنَّكَ الطَّمَعُ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً)(غرر الحكم: الحكمة10317).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جِهَادُ الإِمَامِ الحُسَينِ مَعَ أبيهِ(عليهما السلام)
السؤال: هل جاهدَ الإمامُ الحسينُ(عليه السلام) مع أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ وهل أشارَ الإمامُ عليٌّ(عليه السلام) إلى جهادِ الحسينِ (عليه السلام) في نهج البلاغة؟
الجواب: لطالما حثَّ الامامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) المسلمينَ على الجهاد في سبيل الله ضدّ المشركين والكافرين، وخاضَ الحروبَ مع النَّبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وشَارَكَهُ أولادُهُ في حروبِهِ إلى أنْ استشهدَ (عليه السلام) في الكوفة، فكانَ من خُطَبِهِ التي حَثَّ المسلمينَ على الجهادِ للعودة إلى صفّين الخطبة 182 في نهج البلاغة المروية عن نوْفٍ الْبِكَاليّ، قال(عليه السلام) فيها بعد أنْ حمدَ اللهَ وأثنى عليه: (أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ..).
ثم بعد ذلك توجَّعَ على أصحابه الذين مَضَوا معه في ساحاتِ الجهاد أمثال عمار وابن التَيِّهَان وذي الشّهادَتين، فَقَالَ (عليه السلام) كلمةَ تَوجُّعٍ: (أَوّه عَلَى إِخْوَانِي.. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا..).
ثمّ نادى بأعلى صوته: (الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا، فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ..).
قال نوْفٌ الْبِكَاليُّ: (وَعَقَدَ لِلْحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي عَشَرَةِ آلَافٍ..)، ففتح الله على يدي الحسين (عليه السلام) وملك المشرعة في صفّين، قال العلامة المجلسي: وَأَتى -الحسين(عليه السلام)- إلى أبِيهِ وَأخْبَرَهُ، فَبَكى عَلَيٌّ (عليه السلام)، فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ يَا أميرَ المُؤْمنينَ؟ وَهَذا اوّلُ فَتْحٍ بِبَرِكَة الحُسَينِ (عليه السلام)؟ فَقَالَ: ذكرتُ أنَّهُ سَيُقْتَلُ عَطشَاناً بِطَفِّ كَرْبَلا حَتّى يَنْفرَ فَرَسُهُ وَيُحَمْحِمُ وَيَقُولُ: الظَّلِيمَةَ الظَّلِيمَةَ لِأمَّةٍ قَتَلَتْ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهَا.(بحار الانوار : ج44، ص266).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حَسَدُ الصَّدِيقِ
السؤال: نرجو توضيح كلام أمير المؤمنين(عليه السلام): (حَسَدُ الصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ الموَدَّةِ)(نهج البلاغة: الحكمة208)؟
الجواب: يدعو الإمامُ (عليه السلام) إلى الصدق في العلاقات مع الاصدقاء، فلا يصح لأحد أنْ يظهرَ أنَّهُ قريبٌ من شخصٍ، ولكنه في الواقع يضمر في نفسه الحسد على ما بلغه من شأنٍ في مختلف أمور الحياة، لكون ذلك منافياً للمودة التي بينهما.
فلذلك هذه الحكمة من الإمام (عليه السلام) قد شخصت أمراً مهماً وهو: أنَّهُ قد يوجد خلل في عملية اختيار الصديق التي لم تقم على أساس الولاء الواقعي، فقد يقول صديقك كلاماً يجاملُكَ فيه، فينبغي الحذر منه لئلا تُفاجأ بصدمة قوية منه، وإلَّا فإنَّ الصداقة الحقيقية يمكن أنْ تبلغَ إلى مستويات يكون فيها الصديقان روحاً واحدةً، قال ابن أبي الحديد: (إذا حسدك صديقك على نعمة أعطيتها لم تكن صداقته صحيحة، فإنَّ الصديق حقاً من يجري مجرى نفسك، والإنسان لم يحسدْ نفسَهُ)(شرح نهج البلاغة: ج19، ص39).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حُسْنُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ
السؤال: قال أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) في نهجِ البلاغةِ: (خالِطُوا النّاسَ مُخالَطَةً، إنْ مِتُّمْ بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإنْ غِبْتُمْ حَنُّوا إلَيْكُمْ)(نهج البلاغة: الحكمة6، ص520، تحقيق هاشم الميلاني)، ما هو المراد من كلام الامام (عليه السلام)؟
الجواب: تعبيرٌ جميلٌ جداً مِن الإمامِ (عليه السلام) في المعاشرة الحسنة مع الناس مهما كانوا، فيتحمل الإنسان الأذى ويصبر على البلاء في معاشرته معهم بحيث يولد هذا التحمل والصبر حبَّاً في قلوبهم له، لأن البكاء على الميت واقعاً لا يَتَأتَّى إلَّا من الحبٍّ الشديدٍ، فيقول الامام (عليه السلام): (إنْ مِتُّمْ بَكَوْا عَلَيْكُمْ)، وذلك نتيجة المعاشرة الطيبة مع الناس، (وَإنْ غِبْتُمْ حَنُّوا إلَيْكُمْ)، أي حَنُّوا شوقاً إليكم، ولا يشتاق إلَّا ذو الشوق الكبير.
ولذلك فإنَّ كثيراً من رواياتِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) تؤكد على معاشرة الناس بالمعروف والطيب، منها ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه لمعاوية بن وهب حينما سأله عن كيفية معاشرة الناس والاختلاط معهم، فقال له: (تُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ، وَتَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ، وَتَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ)(الكافي، الكليني: ج4، ص680)، وفي رواية أخرى قَالَ (عليه السلام): (إِنَّ أَحَدَاً لَا يَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ حَيَاتَهُ، وَالنَّاسُ لَابُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ) (الکافي، الكليني: ج4، ص679).
وينبغي للإنسانِ أن يتمنى الخير لأخيه الإنسان، وأنْ يتعايش معه تعايشاً سلمياً كما يُعبَّر اليوم في العصرِ الحديثِ، قَاَلَ الإمامُ الباقرُ (عليه السلام): (ولا يَتَهَجّم بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ)(وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص406).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حَصْدُ الشَّرِ وقَلْعُهُ
السؤال: ماذا يعني كلام الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: (أُحْصُدِ الشَّـرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ)(نهج البلاغة، ط دار الكتاب اللبناني، ج1، ص501)؟
الجواب: في كلام الإمام (عليه السلام) دعوة إلى نبذ وترك الحقد والضغائن والشرور بين المؤمنين، وما يؤجج نار الضغينة؛ فإنَّ على المؤمن أنْ يبدأ الآخرين بالإحسان اليهم، والتسامح معهم، وعدم اضمار السوء لهم، فكلما كان هناك تعامل إنساني بين المؤمنين كان هناك تقارب أكثر بينهم، والإنسان قد يكون مستواه العلمي والثقافي والاجتماعي كبيراً، ولكن لا يستطيع ان يُخْرِجَ الشرَّ من داخل صدره، ويبعده عن الاخرين، فلا بُدَّ بالنهاية من أنْ يتسامح الطرفان، ولا يضمر كل منهما الشرّ والسوء للآخر، قال ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الحكمة: (أنّه يريد لا تضمر لأخيك سوءً فإنك لا تضمر ذاك إلا يضمر هوَ لَكَ سوءً لأنَّ القلوب يشعر بعضها ببعض، فإذا صفوتَ لواحد صفا لك..)(شرح نهج البلاغة: ج18، ص411).
وفي كلام الإمام (عليه السلام) التفاتة عظيمة وتنبيه مهم في كلمته: (أُحْصُدِ الشَّـرَّ...) حيث عبَّر بالحصاد، أي لا يبقى أي شرٍّ وحقدٍ دفينٍ في صدر الغير، وقوله(عليه السلام): (بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ) أي لا يبقى للشر أثر في صدرك، فليبدأ الأول ويبادر بقلع الشر من نفسه، بحيث يمكنه هذا أنْ يسيطر على الغير، ويحصد الشرّ من صدره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خَرَابُ الدَّارِ
السؤال: ما معنى كلام الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (الْحَجَرُ الْغَصِيبُ فِي الدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا)(نهج البلاغة ، محمد عبدة: ج3، ص206، ط مطبعة الاستقامة)؟
الجواب: لقد أوجبَ اللهُ تعالى التكاليف الشرعية على الإنسان لكي يحفظ للمجتمعِ حقوقَهُ المادية والمعنوية، فينبغي للإنسان أنْ لا يتعدى على أخيه الإنسان في هذه الدنيا، وبالتالي إذا تَعَدَّى ظَلَمَ، ولا يمكن لمجتمعٍ أنْ يستمرَّ في الحياة مع وجود الظلم، لأنَّ الظلمَ نتيجته الفناء والخراب.
ومن هنا يدعو إمامُنا (عليه السلام) بقوله: (الْحَجَرُ الْغَصِيبُ) -أي المغصوب- إلى عدم غصب حقوق الآخرين والظلم والتعدي عليهم، فإذا غصبَ الشخصُ حقوقَ الآخرين ولو بحجر واحد يؤدِّي ذلك إلى خراب داره التي يسكن فيها، قال ابن أبي الحديد: (ومعنى الكلمة أن الدار المبنية بالحجارة المغصوبة ولو بحجر واحد لا بد أن يتعجل خرابها، وكأنما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب، أي كما أن الرهن لا بد أن يفتكَّ كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهناً عليه أن يحصل)(شرح نهج البلاغة: ج19، ص72).
ولعلَّ (الخراب) المراد من كلام الإمام (عليه السلام) هو ليس الخراب المادي للدار وهو انهدامُها وخرابُ بنائها، بل المراد هو الخراب المعنوي وهو متمثل بالآثار الوضعية مثل عدم توفيق ساكنها، أو كثرة مصائبه ومشاكله، أو إصابته بمرض عضال، أو موته، أو .. أو... من أشكالِ الخراب الكثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيرِي
السؤال: قالوا: إنَّ علياً (عليه السلام) رفض الخلافة عندما بايعه الناس، فلو كان إماماً مفترض الطاعة، منصوصاً عليه، لما جاز له ذلك، واستدلوا بما رُوي في النهج من قوله (عليه السلام): (دَعوني وَالتَمِسوا غَيري..). (نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: الخطبة: 91، ص244). فهل أنَّ هذا الكلام صحيحٌ؟
الجواب: هذا الكلام باطل؛ لأنَّ هذه الخطبة يرويها سيف بن عمر التميمي، وهو معروف بالكذبِ عند الخاصة والعامة، قال عنه بنُ حجر (تقريب التهذيب: ج1، ص262): (ضعيف الحديث).
وإنْ تنزَّلْنا وقلنا بصحَّةِ سَنَدِ الخطبةِ، فيمكن توجيهها بوجوه عديدة، منها:
1-إنَّ الذين أرادوا بيعةَ الإمام (عليه السلام) هم الذين بايعوا من كان قبله، واعتادوا على سيرتهم، فأرادوا منه (عليه السلام) أن يسير بهم بتلك السيرة، فأبى وقال: دعوني أن أتقلّد ما تريدون، واطلبوا غيري ليسير فيكم بسيرتهم.
2-إنَّ كلامه (عليه السلام) هذا كلامُ عاتبٍ وشاكٍ من أصحابه، فيقول لهم: دعوني والتمسوا غيري على طريق الضجر منهم، والتبرم من أفعالهم؛ لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل، واختاروا غيره، فلما طلبوه بعد ذلك أجابهم جواب المسخط العاتب.
3-إن الذين أرادوا بيعته كانوا لا يرون أنَّ الإمام (عليه السلام) منصوبٌ ومنصوصٌ عليه من قبل الله تعالى، فلم يكن واجباً عليه قبولُ رئاستهم، فأي مانع أنْ يقول: دعوني والتمسوا غيري لإمامتكم المصنوعة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذَمُّ الخِلَافَةِ في نَهجِ البَلَاغَةِ
السؤال: قالوا: إنَّ عليَّاً (عليه السلام) ذمَّ الخلافةَ، قال عبد الله بن عباس: دخلت على أميرِ المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصِفُ نَعلَه، فَقَالَ لي: (مَا قِيمَةُ هذَا النَّعْلِ؟) فَقُلْتُ: لاَ قِيمَةَ لَهَا، فَقَالَ (عليه السلام): (وَالله لَهِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ إمْرَتِكُمْ، إلّا أنْ اُقِيمَ حَقّاً، أوْ أدْفَعَ بَاطِلاً)(نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: الخطبة33، ص134)، فهل يصحّ منه (عليه السلام) أن يصفَ منصباً إلهياً بهذه الصفة؟
الجواب: يُجابُ على هذه الشبهة من وجوه:
الأول: إنّ هذه العبارات التي ذُكِرَتْ هي ليست لذمّ الخلافة كمنصب إلهي، بل هي ذمٌّ للناس الذين كانوا رعية الخليفة، فهو لم يشبِّه الخلافة بالنعل البالي، بل شبَّه خلافةَ هؤلاء بهذا الوصف، فكلامه (عليه السلام) كان دقيقاً جداً حيث قال (إمْرَتِكُمْ)، ولم يقل (الخِلافَة أو الولاية).
الثاني: استثنى الإمام (عليه السلام) من هذا الأمر الخلافةَ الحقيقيةَ والإمامةَ الإلهيةَ التي يجب أن تكون وسيلة لإقامة حقٍّ أو هدم باطل، وهي غيرُ مشمولةٍ بالذم المتقدم، بل إنّ هذه الخلافة يعطيها كل الأهمية، لأنّها ستمكّنُه (عليه السلام) من إقامة الحق، وإبطال الباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رَأْيُ الشَّيْخِ
السؤال: لماذا قَدَّمَ أميرُ المؤمنين(عليه السلام) رأي الشيخ(1) على قوة الغلام في كلامه: (رَأْيُ اَلشَّيْخِ أحَبُّ إِليَّ مِنْ جَلَدِ(2) الغُلاَمِ)(نهج البلاغة، محمد عبده: ج3، ص169).
الجواب: يدعو الإمام(عليه السلام) إلى الأخذ برأي كبير السنِّ لأنَّ له خبرة كبيرة في الحياة، ومرَّ بتجارب كثيرة وعديدة، فيضيف رأيُهُ إلى قوةِ الشباب قوّةً أخرى ورصانة عظيمة، فكأن الإمام(عليه السلام) يجعل معترك الحياة كمعترك الحرب، يخوض الإنسان فيها بقوة شبابه وعضلاته، ولكن قد يخسر المعركة إذا لم يكن على دراية من أمره، خصوصاً إذا تهوّر بشجاعته.
فهكذا الحياة الدنيا قد يخسرها -والعياذ بالله- من يعتقد أنه أقوى الأقوياء بجَلَدِه وقوته وشبابه، وليس في هذا تقليل من أهمية عنصر الشباب بل محافظة عليهم من مكاره الدنيا ومصائبها.
(1) الشيخ لغة: من استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب(المنجد:ص410).
(2) الجَلَد لغة: القوة، الصلابة، الشدة، الصبر. (المنجد: ص96).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سَبْكُ عِبارَاتِ نَهْجِ البَلاغَةِ
السؤال: ادعى الذهبي وجود عبارات ركيكة في كتاب نهج البلاغة تدل على أنها ليست من سبك الإمام علي (عليه السلام)، المعروف بالفصاحة والبلاغة والاحاطة بأساليب العرب، حيث قال: (وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات الّتي من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة، وبنَفس غيرهم ممّن بعدهم من المتأخرين، جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل).(ميزان الاعتدال، الذهبي: ج3، ص124).
الجواب: يمكن الإجابة على هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: لم يأتِ الذهبي بشاهد أو دليل أو قرينة على ما ذكره سوى إلقاء الكلام على عواهنه دون إثبات لصدق ما يدَّعيه، وهذه عادة من لا يكون عنده حجة يثبت بها دعاواه الباطلة.
ثانياً: شهادة الذهبي لا يمكن قبولها؛ لما ذكره هو بنفسه بقوله: (من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة)، إذ أنّ الرجل نص في ترجمته للشريف الرضي (رض) أنه فارس في ميدان الأدب والشعر... في المقابل نجد أن الذهبي لا سابقة له في علوم الادب والبلاغة، بل هو ليس بعربي أصلاً، وإنما هو تركماني، في أنَّ الرضي عربي قرشي هاشمي علوي، فكيف تقبل شهادة هذا في هذا؟! (نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات، الشيخ احمد سلمان: ص38).
ثالثاً: شهادة الذهبي معارضة بشهادة مجموعة من أهل الاختصاص المشهود لهم بأنهم من أهل المعرفة باللغة والادب والبلاغة؛ قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة: ج1، ص35: (ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجَارى في الفصاحة، ولا يُبَارى في البلاغة، وحسبك انه لم يدوَّن لأحد من الصحابة العُشْر، ولا نصف العُشْر مما دوِّن له...).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سَنَدُ نَهْجِ البَلَاغَةِ
السؤال: أرجو إعطائي سند نهج البلاغة الكامل (عن فلان، عن فلان...، وصولا إلى الإمام علي (عليه السلام))، مع ذكر المصادر الحديثية والتاريخية لها؟
الجواب: إن كتاب (نهج البلاغة) ليس كتاباً من تأليف الإمام علي (عليه السلام) حتى يكون لسؤالكم وجهاً بالإجابة حسبما تطلبون، وإنما هو مجموعة خطب وكلمات ورسائل لأمير المؤمنين (عليه السلام) جمعها الشريفُ الرضي (رحمه الله) في كتابٍ، وأطلق عليها اسم (نهج البلاغة)، وكان الشريف الرضي قد جمعها من مجموعة كتب معروفة في زمانه، لكنه لم يذكر سنده أو سند تلك الكتب عند جمعه لها، وقد قام بعض الأفاضل بمهمة إرجاع تلك الخطب والكلمات المأثورة إلى الإمام علي (عليه السلام) بذكر أسانيدها وذكر المصادر الكثيرة والمشهورة التي اعتمد عليها الشريف الرضي، منهم السيد عبد الزهراء الخطيب الحسيني حيث أحصى (114) مصدراً من مصادر مؤلّفة قبل سنة 400هـ، وهي سنة جمع الشريف الرضي لنهج البلاغة، تبدأ هذه المصادر من رقم(1) اثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي المتوفى عام (333 أو 345) هـ . ط النجف الأشرف، وتنتهي بالمصدر رقم(114) الولاة والقضاة لابي عمرو محمد بن يوسف الكندي المتوفي سنة (350) هـ. ط القاهرة. (مصادر نهج البلاغة وأسانيده، عبد الزهراء الخطيب الحسيني: ج1، ص29- 44).
ويكفينا أن نعلم أنّ من جملة أولئك الرواة القدماء: نصر بن مزاحم (202هـ)، ابن سعد (230هـ)، الجاحظ (255هـ)، السجستاني(255هـ)، ابن قتيبة(286هـ)، البلاذري(279هـ)، البرقي(280هـ)، اليعقوبي(284هـ)، أبا حنيفة الدينوري(290هـ)، الطبري(310هـ)، الزّجّاجي(329هـ)، الكندي (350هـ)، أبا الفرج الاصبهاني (356هـ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شَخْصِيَّةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي نَهْجِ البَلَاغَةِ
السؤال: هل يمكن بيان بعض صفات شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من نهج البلاغة؟
الجواب: يبينُ لَنَا الإِمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) مَلامحَ من شَخصيَّتِه وبعض صفاتِه في نهجِ البَلاغَةِ، فيقولُ(عليه السلام): (أَنَا الصِّدِّيقُ الأَكْبرُ، وأَنَا الفَارُوقُ الأَوَّلُ، أسْلَمْتُ قَبْلَ إسْلامِ النَّاسِ، وصَلَّيْتُ قَبْلَ صَلَاتِهِم)(شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج1، ص30).
وقد وصف ابنُ أبي الحديد المعتزلي الإمَامَ أميرَ المؤمنينَ (عليه السلام)، فقال: (وما أَقُولُ في رَجُلٍ سَبَقَ النَّاسَ إلى الهُدَى، وآمَنَ باللهِ وعبَدَهُ وكلُّ مَنْ في الأرضِ يَعبُدُ الحَجَرَ ويَجْحَدُ الخَالِقَ، لمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى التَّوحِيدِ إلَّا السَّابِق إِلَى كلِّ خَيْرٍ مُحمَّدٌ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله))(شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج1 ص30).
ثم يُبَيِّنُ ابنُ أبي الحديد مناقبَ وخصائصَ الإمَامِ (عليه السلام) العديدةَ والكثيرةَ، فيقولُ: (فَلو أَردْنَا شَرحَ مناقِبِه وخصائِصِه لاحْتَجْنَا إلى كِتابٍ مفردٍ يماثلُ حَجْمَ هَذَا-يعني نهج البلاغة- بل يَزيدُ عَلَيْهِ)(شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي: ج1، ص30).
فكيف لا يكون (عليه السلام) كذلك، وهو القائل(عليه السلام): (..وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ -أي رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه...، أَرَى نورَ الوَحي والرِّسَالَةِ، وأشمّ رِيحَ النّبوّةِ)(نهج البلاغة، الخطبة: 192).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طُولُ الأَمَلِ
السؤال: ما معنى كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: (مَنْ أَطَالَ اَلْأَمَلَ أَسَاءَ اَلْعَمَلَ)(شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج18، ص155)؟
الجواب: إنَّ الإسلام لا يعارض التخطيط والبرمجة من أجل المستقبل والتطلع إلى الغد، فالإنسان بطبيعته يأمل أن يعيش حياة مستقبلية مستقرة فيها طموح وآمال، وهذه الآمال ممدوحة في الإسلام ولولاها لما بقي طعم ولذة للحياة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الأملُ رَحمةٌ لأمّتي، ولَوْلَا الأملُ ما أرْضَعَتْ والِدَةٌ وَلَدَها، ولا غَرَسَ غارِسٌ شَجَراً)(بحار الأنوار، المجلسي: ج77، ص175).
ولكن في المقابل هناك أملٌ مذمومٌ، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه أعلاه: (مَنْ أَطَالَ اَلْأَمَلَ أَسَاءَ اَلْعَمَلَ)، أي أنّ الإنسان يغرق في بحر من الآمال الفارغة، ويأمل أنْ يطولَ عمرُهُ دهوراً فيُسيء العمل وينسى الآخرة، وبالتالي لا يظفر بهذه الآمال مهما طالت حياته، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (أَيُّها النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيْكُمُ اثْنانِ: اتِّباعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ)(وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص652).
فاذا أساء الإنسان العملَ سَوّفَ التوبةَ وأخّرَهَا، قال العلامة المجلسي: (وتطويل الأمل هو أن يأمل أموراً يتوقف حصولها على عمر طويل... وهذا يصير سبباً لأن يجترئ على المعاصي، ويسوِّف التوبة((مرآة العقول، المجلسي: ج11، ص157).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَجَائِبُ خِلْقَةِ الإنسان
السؤال: ماذا يقصدُ الإِمامُ عليٌّ (عليه السلام) من كلامِهِ في نَهْجِ البلاغةِ: (اعْجَبُوا لِهذَا الإنسان يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ) (نهج البلاغة: الحكم والمواعظ:4)؟
الجواب: إِن الله (عزوجل) أنعم على الإنسان بنعم مادية ومعنوية لا تُعدُّ ولا تُحصى، والإِمام (عليه السلام) يشير في هذا المقطع من كلامه إِلى أَهم هذه النعم الإِلهية، وهي: النَّظر والتكلّم والسّمع والتنفّس.
فأَمّا قوله (عليه السلام): (يَنْظُرُ بِشَحْمٍ..) يريد بالشحم حدقة العين -البؤبؤ- وهو: (السَّوَادُ المسْتَدِيرُ وَسَطَ العَيْنِ)(لسان العرب: ج10، ص39)، والعين أَهم وسيلة لارتباط الإنسان بالعالم الخارجي، وعجائب هذه النعمة تجعل الإنسان يدرك عظمة الخالق سبحانه؛ لأَنه إِذا رجعنا إِلى تشريح العين كما يُبَيِّنُهُ لنا الطبُّ الحديثُ يظهر لنا أَنّ العين تتكون من طبقات متعددة، كالقرنية والشبكية وغيرهما، ولكلِّ واحدةٍ منها تركيبٌ عجيبٌ دقيقٌ مدهشٌ، حتى إِنّ أَعقد أَجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنةً بالعين.(تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: ج20، ص213، بتصرف).
وأَمّا قوله (عليه السلام): (وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ..) أَي: اللِّسان، فيُبيِّنُ الإِمامُ (عليه السلام) نعمةَ التكلُّم، وهي من أَهم وسائل تفاهم الإنسان مع غيره من البشر، وبدون هذه الوسيلة الهامة ما كان بإِمكان الإنسان إِطلاقاً أَن يرتقي إِلى ما ارتقى إِليه في العلم والمعرفة.
وأَمّا قوله (عليه السلام): (وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ..) أَي: عظام الأُذُن يضربُها الهواءُ فتقرعُ عصبَ الصّماخِ فيكون السّماع.(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص153).
وأَمّا قوله (عليه السلام): (وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ) فإنه يشير (عليه السلام) إِلى استمرارِ حياةِ الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عُجْبُ المرءِ
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عُجْبُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ)(نهج البلاغة: الحكمة208)، كيف يحسد الإنسان نفسه وعقله؟
الجواب: قد يُرزق الإنسان علماً أو جاهاً أو مالاً، ويعتقد أنّه هو الذي حصل على هذه الأمور، ولكن في الحقيقة هي من الله تبارك وتعالى، وهذا الاعتقاد يجعله أنْ يغتر ويعجب بنفسه كثيراً، مما يسبب ضياع هذه المصالح عنه بسبب اغتراره وعُجْبه بنفسه، وهذا معنى حسد الإنسان لنفسه وعقله كما قال الإمام (عليه السلام): (عُجْبُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ).
قال ابن أبي الحديد في شرح كلام الإمام(عليه السلام): (ومعنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهداً في إظهار معايب المحسود وإخفاء محاسنه، فلما كان عجب الإنسان بنفسه كاشفاً عن نقص عقله، كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود ونقصه)(شرح نهج البلاغة: ج19، ص33).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عدالة الصحابة في نهج البلاغة
السؤال: قالوا: إنّ الامامَ علياً (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة مدحَ جميعَ الصحابةِ، واعتبروا هذا شاهداً ودليلاً على عدالةِ جميعِ الصحابةِ، حيث قالَ (عليه السلام): (لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، وقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وخُدُودِهِمْ.. إِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ،..، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، ورَجَاءً لِلثَّوَابِ)(نهج البلاغة: الخطبة97)، فكيف الجواب عن هذا الاشكال؟
الجواب:
أولاً: إنّ أميرَ المؤمنينَ (عليه السلام) بصدد مدح مجموعة محدودة من الصحابة وليس كلهم، ولا يوجد أي دليل أو قرينة في الخطبة تدل على أنّ الامام (عليه السلام) يريد مدحَهم كلَّهم.
ثانياً: نجد كثيراً من نصوص نهج البلاغة ظاهرة في عدم ارتضاء الامام (عليه السلام) لجملة من الصحابة، كما هو الحال في الخطبة الشقشقية التي قال فيها: (حَتَّى إِذَا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَفَسَقَتْ أُخْرَى، وَ مَرَقَ آخَرُونَ..)(نهج البلاغة: ط دار الكتاب اللبناني، الخطبة الشقشقية، ج1، ص48)، إشارةً إلى ما فعله معاوية وطلحة والزبير والخوارج معه، وغيرها من الموارد التي تعرض (عليه السلام) فيها بالنقد وعدم رضاه على بعض الصحابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَدَمُ انقِطَاعِ الوَحْي
السؤال: احتجَّ البعضُ بقول أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) في نهجِ البلاغَةِ: (أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ)(نهج البلاغة، هاشم الميلاني: الخطبة133، ص332) لإثبات انقطاع الوحي بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وعدم وجود صلة بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين السماء، وبالتالي فإنهم (عليهم السلام) لا يمتازون عن الناس بشيء، فما هو الجواب؟
الجواب: إنَّ المستَشْكِلَ وَقَعَ في خَلطٍ شَديدٍ؛ إذ أنَّ هناكَ فَرْقاً بينَ الموحَى إليهِ وبينَ المحَدَّث، فإنَّا لا نقول أنَّ أئمةَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) يَنزلُ عليهم الوَحي منَ السماءِ، وإِنما هُم أئمَّةٌ محدَّثونَ، أي تُحدِّثُهم الملائِكَةُ، ويُلقَى العِلمُ في رَوعِهم منْ قِبَلِ اللهِ سبحانه، وبين الأمرين فَرْقٌ وَاضِحٌ.
نَقل العلامة المجلسي رد الشيخ المفيد على هذه الشبهة: {إنَّ العقلَ لا يمنع مِنْ نزولِ الوَحْي إليهم -أي أهل البيت(عليهم السلام)- وإن كانوا أئمةً غيرَ أنبياء، فقد أوْحَى اللهُ (عزوجل) إلى أمِّ موسى:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)(القصص:7)، ... ولم تكن نبياً، ولا رَسولاً، ولا إمَامَاً، ولكنّها كانَت منْ عبادِهِ الصَّالحين، ...، والاتفاق على أنّه مَنْ زَعَمَ أنَّ أحداً بعدَ نَبِيِّنَا يُوحَى إليه فَقَد أخطَأ وكَفَرَ}(بحار الأنوار، المجلسي: ج26، ص84).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَاعِلُ الخَيْرِ وفَاعِلُ اَلشَّرِّ
السؤال: ما هو المراد من كلامِ الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة: (فَاعِلُ اَلْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَفَاعِلُ اَلشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ)(شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج18، ص149)؟
الجواب: يدعو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النَّاس إلى فعل الخير والإكثار منه، ونبذ الشر والابتعاد عنه؛ وذلك لأنَّ الخيرَ هو عنوان كل الفضائل والكمالات، فلذلك ينبغي علينا أنْ نسعى إلى فعل الخير بشدّة، وهذا معنى كلام الإمام(عليه السلام) (فَاعِلُ اَلْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ)، أي أنَّ فاعلَ الخيرِ خيرٌ من الخيرِ نفسِهِ.
بينما الشرّ يجمعُ كل الرذائل والمعايب التي تؤدي إلى وجود حالات سلبية في المجتمع من الحاق الأذى بالآخرين وغيره، وهذا معنى قول الإمام(عليه السلام): (وَفَاعِلُ اَلشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ)، أي أنَّ فاعلَ الشرِّ أكثرُ شرَّاً من الشرِّ نفسِهِ.
وإلى هذا المعنى أَشَارَ الرسولُ الأكرمُ (صلى الله عليه وآله) في قوله: (خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرِ مُعْطِيهِ، وَشَرٌّ مِنَ الشَّرِّ فَاعِلُهُ)(بحار الانوار، المجلسي: ج77، ص163).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثرةُ العِبَرِ وَقلّةُ الاعْتبَارِ
السؤال: ما هو المراد من كلام أمير المؤمنين(عليه السلام): (مَا أَكثَرَ اَلعِبَرَ وَأَقَلَّ الاِعْتِبَارَ)(نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج19، ص203)؟
الجواب: كثيرةٌ هي التجارب والمشاهد والقضايا التي يتعرض لها الإنسان في حياته، ويطّلع عليها وقد يؤمن ببعضها، ولكن مع الأسف أنَّ هذا الإنسان يغفل عن هذه الامور، ولا يأخذ بها كعِبرة يعتبرُ بها، لكي لا يقع في محذور، كوقوع ضرر عليه، أو فوات نفع عليه، فلابد على الإنسان العاقل الحاذق أنْ لا يفوت الفرص لإصلاح نفسه، والخلاص بها إلى برِّ الأمان، فقد يندم على ما فات منه، وما قصَّرَ فيه.
فالامام (عليه السلام) يدعو وينبّه إلى استثمار هذه العبر الكثيرة والكبيرة التي قد تمر على الإنسان في حياته والاعتبار بها، ولذلك عبَّرَ (عليه السلام): (مَا أَكثَرَ اَلعِبَرَ وَأَقَلَّ الاِعْتِبَارَ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَفَى بِالْأَجَلِ حَارِسَاً
السؤال: قالَ الإمامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (كَفَى بِالْأَجَلِ حَارِساً)(نهج البلاغة، الحكمة306)، كيف يمكن أنْ نفهمَ من كلام الإمام (عليه السلام) أنَّ أجلَ الإنسان حارسٌ له؟
الجواب: يبين الإمام(عليه السلام) سنّة كونية ثابتة، وهى أنّ الإنسان لا يغادر هذه الدنيا ما لم يحن أجله، وعليه فأجل الإنسان بيد الله تعالى، لا يتقدم ولا يتأخر، وأنّ إرادة الله هي التي اقتضت أن يبقى فلان إلى الوقت الفلاني، ولا يمكن لأحدٍ أنْ يقف بوجه هذه الإرادة، ومن هنا يمكن اعتبار الأجل الإلهي جنّة حصينة إزاء بعض الحوادث؛ قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللهِ جُنَّةً حَصِينَةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي أَسْلَمَتْنِي، فَحِينَئِذٍ لا يَطِيشُ السَّهْمُ..)(شرح نهج البلاغة: ج5، ص132)، فليس من الصحيح أن يترك الإنسان بعض الواجبات الخطرة خوفاً من الموت، كالجهاد والحج، وبعض الأعمال التي تتطلب بعض الأسفار وغيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أميرٍ
السؤال: قَالُوا: إنّ أميرَ المؤمنينَ (عليه السلام) صرَّحَ بأنّهُ لا تشترط العصمةُ في الإمامِ، ويستدلون على ذلك من قوله (عليه السلام): (لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ؛ بَرٍّ أو فاجِرٍ)(نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: الخطبة40، ص146)؟
الجواب: يجابُ على هذهِ الشبهةِ من وجوهٍ:
الأول: إنّ المسْتَشْكِلَ خَلَطَ بينَ مفهوم الامامةِ والإمارةِ، فالذي يطلقُ عليه إمام هو صاحب الولاية العامة على الناس، وكلام الإمام (عليه السلام) حول الأمير وليس الإمام، فالأمير هو الذي يمكن أنْ يكونَ بَراً أو فاجِراً، وهو تارة يكون هو الإمام المنصَّب من قبل الله تعالى، وأخرى ليس هو كذلك.
الثاني: لو سلَّمْنا جَدَلاً بالتطابق بين معنى الإمامةِ والإمارةِ، فليس في هذا النصِ حجةٌ للخصمِ؛ إذْ لم يكنْ الإمامُ (عليه السلام) بصددِ ذكرِ شرائط الامامةِ، وكيفية نصبه أهو من الناس أو من قبل الله سبحانه، بل كان الامامُ (عليه السلام) بصددِ بيانِ بطلانِ ما يذهبُ اليهِ الخَوارِجُ لَمّا سَمِعَ قَولَهم لَا حُكمَ إلّا لله، فقال (عليه السلام): (كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ؛ نَعَم، إنَّهُ لا حُكمَ إلّا لله، وَلكِنَّ هؤُلاءِ يَقولونَ: لا إمرَةَ إلّا لله، وإنَّهُ لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ؛ بَرٍّ أو فاجِرٍ، يَعمَلُ في إمرَتِهِ المُؤمِنُ، وَيَستَمتِعُ فيهَا الكافِرُ)(نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: الخطبة40، ص146).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَا كانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ
السؤال: قالوا: إنَّ عَلِيَّاً (عليه السلام) صرّحَ بعدمِ رغبته في الخلافةِ، فقال: (وَالله مَا كانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَلَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ-حاجةٌ-)(نهج البلاغة، تحقيق هاشم الميلاني: الخطبة205، ص522)، فهل يصح أن يتخلَّى (عليه السلام) عما كلَّفَهُ اللهُ به؟
الجواب: إنَّ الإمامَ(عليه السلام) لم يتخلَّ عن الخلافة والإمامة الإلهية؛ لان الخلافة والامامة التي يعتقد بها الشيعة هي منصب الهي يعطيه الله (سبحانه) للذين اصطفاهم من عباده، وهو منصب غير قابل للشورى أو الاختيار البشري إطلاقاً، ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم سمّى النبي آدم (عليه السلام) خليفةً ولم يكن صاحب ملك، قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)، وسمى النبي إبراهيم(عليه السلام) إماماً ولم يحكم مدينة في الأرض، قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامَاً)(البقرة:124).
بالإضافة إلى أنّ هذا النص ورد من الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب عن اعتراض طلحة والزبير حينما أرسلا للإمام (عليه السلام): (يا أبا الحَسَن: أصلحْنَا لكَ الأمرَ، ووطَّدْنا لكَ الإمرة،..، حتى إذا مَلَكْتَ عنَانَكَ استبْدَدْتَ برأيكَ عَنَّا..) (شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج11، ص16)، فالإمام (عليه السلام) بيَّنَ لهما أنّه (عليه السلام) لم يطلب منهما توطيد الأمر له، لأنّه (عليه السلام) ليس من الذين يتلهفون لطلب مُلكِ الدنيا وهو الجلوس على كرسي الخلافة كما هما يعتقدان، ولذلك قال(عليه السلام): (وَالله مَا كانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، ولكِنَّكُم دَعَوتُموني إلَيها، وحَمَلْتُمُوني عَلَيْهَا).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنى (المرْأَةُ شَرٌّ)
السؤال: ما المقصود من كلامِ أمير المؤمنين(عليه السلام): (المرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا، وَشَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا)(نهج البلاغة: الحكمة238)؟
الجواب: ليس المراد هو ذم المرأة كما يتصور، وإنَّما المراد هو التحذير من شرور النساء اللواتي يُغرين الإنسان بطرق شتى، كما هو حال العَالَم اليوم من وجود نساء مبتذلات وغيرهن، قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح كلامه(عليه السلام): (وكَانَ يُقال: أَسبَاب فتنةِ النِّسَاء ثلاثةٌ: عينٌ ناظرةٌ، وصورةٌ مستحسنةٌ، وشهوةٌ قادرةٌ..)(شرح نهج البلاغة: ج19، ص69).
كما أن الحسد والغيرة موجودة في شخصية المرأة أكثر كما هو المتعارف.
فالمعنى أن كل صفات المرأة ومميزاتها يمكن أن تستغل وتستخدم للشرِّ، بحيث تكون من حبائل الشيطان، وجهة الشرِّ فيها أنَّ الحاجة إليها ضرورية لا يستغنى عنها بحال، فكلام الإمام (عليه السلام) في مقام التحذير، لا في مقام التنقيص والذم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُقابَلةُ الظّلمِ
السؤال: ما هو المراد من قول الامام أمير المؤمنين(عليه السلام): (ثَلاثَةٌ إنْ لمْ تَظْلِمْهُم ظَلَمُوكَ: عبدُكَ وزَوجَتُكَ وابنُكَ)(نهج البلاغة:الحكمة94)؟
الجواب: يظهر لأوّل وهلة من كلام الإمام (عليه السلام): إنّك إنْ لم تبتدئهم بالجور والظلم، يظلموك من غير سبب، فيدل على جواز الابتداء بظلمهم، ولكن هذا غير صحيح، وغير مراد من كلام الإمام(عليه السلام) قطعاً؛ لأنَّه لا يجوز القصاص والاعتداء والتجرّي والتعدّي على الآخرين قبل قيامهم بالجناية والظلم.
فبعد التأمل في كلامه (عليه السلام) يمكن توجيهه بأنَّ المراد هو:
إنّ صفحك عن هؤلاء وعفوك عنهم بعد تقصيرهم وإساءتهم إليك مذموم؛ لأنَّه قبول منك على التعدي عليك والإضرار بك، فالممدوح حينئذ تأديبهم بمعاتبتهم ومعاقبتهم إذا أساؤوا اليك وتجاوزوا عليك بما يجعلهم لا يسيؤون إليك ويتجاوزون عليك مرة أخرى، وإنّما سمّي ذلك ظلماً -مع كونه جزاء سيّئة بمثلها وهو عين العدل- من باب المقابلة والمشاكلة، وليس هو ظلمٌ حقيقةً وواقعاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ أوْلَى النَّاسِ بالعَفْوِ؟
السؤال: ما معنى كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (أوْلَى النّاسِ بِالعَفْوِ أقْدَرُهُمْ عَلَى العُقُوبَةِ)(نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص163)؟
الجواب: إنَّ العفوَ يصدرُ إمّا من القادر أو من غير القادرِ، فأمّا غيرُ القادر فلا فضلَ لهُ في عفوِهِ، بل ربما لا يسمّى عافٍ أصلاً، لأنّه ربما لو كان قادراً لما عَفَا، وأما الفضل في العفو فيحصل للقادر على العقوبة، وهو أمر واضح.
فهنا أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الحديث: (أوْلَى النّاسِ بِالعَفْوِ أقْدَرُهُمْ عَلَى العُقُوبَةِ) يُبَيِّنُ العلاقة بين قدرة الإنسان على العقوبة وبين العفو، فإنّ العفوَ يصدر من القادر على العقوبة ويكون فضلاً له، فالسلطان مثلاً إذا كانت له قدرة كبيرة فيعفو عن المذنبين في حكومته، ويكون أهلاً للعفوِ، لأنّه قادر، وهذا ما يريده الامام (عليه السلام) من كلامه، فإنَّ من لا يكون قادراً على العقوبة لا يكون قادراً على العفو.
قالَ أعرابيٌّ للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): يا رَسولَ اللهِ مَنْ يُحاسِبُ الخَلقَ يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ: (الله (عزوجل))، قالَ: نَجَونَا ورَبِّ الكَعبَةِ! قالَ: (وكَيفَ ذاكَ يا أعرابِيُّ؟) قالَ: لأَنَّ الكَريمَ إذَا قَدَرَ عَفَا)(تنبيه الخواطر: ج1، ص9).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤلِّفُ نَهجِ البَلاغَةِ
السؤال: إن كتاب نهج البلاغة ليس كلام الامام علي (عليه السلام)، وانّما هو للشريف الرضي قد ألَّفَهُ ونَسَبَهُ إلى الامام (عليه السلام)، هل أن هذا الكلام صحيح؟!
الجواب: إن الخطب والرسائل والكتب الموجودة في نهج البلاغة كلها للإمام علي (عليه السلام)، وقد جمعها ورتبها الشريف الرضي، وفي طليعة من تصدّى لتفنيد هذه الشبهة ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرحه لنهج البلاغة ج10، ص127- 129، حيث قال فيه: {... لا يخلو إمّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه، والأول باطل بالضرورة؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد نقله المحدّثون كلّهم أو جلّهم، والثاني يدل عليه ما قلنا لأن من قد آنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لابد أن يُفرّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونَفَسِهِ وطريقَتِهِ ومذهبِهِ في القريض...
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ونَفَساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْيُ سَبِّ الصَّحَابَةِ في نَهجِ البَلاغَةِ
السؤال: يدعي الذهبي أن كتاب نهج البلاغة فيه سبٌّ صريحٌ للصحابة، قال: (ففيه السب الصراح..). (ميزان الاعتدال، الذهبي: ج3، ص124) فهل هذا القول صحيحٌ؟
الجواب: هذا القول غيرُ صحيح، وافتراءٌ على نهج البلاغة، ولا يوجد في نهج البلاغة سبٌّ للصحابة، لأسباب كثيرة، منها:
1-قال الشيخ احمد سلمان في كتابه (نهج البلاغة فوق الشبهات: ص34): بحثت في نهج البلاغة فلم أجد فيه أي سب صراح كما ادعى الذهبي، ولم يأتِ بشاهدٍ واحدٍ على هذا السب الصراح المدعى.
2-إنَّ الموجود في نهج البلاغة هو نقد لبعض سلوكيات الصحابة التي لم يرتضِها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا ليس شتماً أو سبَّاً للصحابة كما حاول الذهبي تصوير الأمر، ثم لم يقل أحدٌ مثلاً: أنَّ نقد الصحابة ليس بجائز، وأنَّهم فوق النقد، ولذلك وجدنا كبار علماء أهل السنَّة يشهدون بصدور بعض الموبقات والمعاصي من بعض الصحابة، فمثلاً وصفهم التفتازاني: (أنَّ بعضهم قد حادّ عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، ...، والميل إلى اللذات والشهوات). (شرح المقاصد، التفتازاني: ج5، ص310)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نَهْجُ البَلَاغَةِ والسَّجْعُ
السؤال: ادعى بعض الكتّاب أن في نهج البلاغة سَجعٌ، والسجعُ معيبٌ؟ هل هذا الكلام صحيح؟
الجواب: السجع هو من المحسنات البديعية التي تبحث في علم البلاغة، وهو كما عرفه أرباب الفن: (تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر). (التعريفات، الشريف الجرجاني: ج1، ص117). أي أن تتفق الكلمتان الواردتان في آخر العبارة أو السياق في بعض الحروف الأخيرة، وشبّهه بعض علماء البلاغة بقافية الشعر. (نهج البلاغة فوق الشبهات، الشيخ احمد سلمان: ص96).
مثاله: ما رواه الطبراني في (المعجم الكبير: ج12، ص88): إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سمعَ قُس بن ساعدة الايادي يخطب، فيقول: (أَيُّهَا النَّاسُ، اجْتَمِعُوا وَاسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَراً، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً، مِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَنُجُومٌ تَمُورُ، وَبِحَارٌ لا تَغُورُ).
والسجع موجود حتى في القران الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ) (الغاشية: 13-14). قال التفتازاني في (مختصر المعاني: ج2، ص207): (ولا يقال: في القرآن أسجاع، رعاية للأدب وتعظيماً له).
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في (شرح نهج البلاغة: ج1، ص128) في معرض ردِّه على هذه الشبهة: (واعلم أنَّ السجع لو كان عيباً لكان كلام الله معيباً، لأنه مسجوع، كله ذو فواصل وقرائن، ويكفي هذا القدر وحده مبطلاً لمذهب هؤلاء).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نَهْجُ البَلاغَةِ والنصُّ عَلَى الإمَامَةِ
السؤال: يدَّعي البعض: أنّه ليس هناك نصٌّ يَدلّ على قضيةِ الخلافةِ والإمامةِ في نهجِ البلاغةِ؟
الجواب: هذا الادعاء باطلٌ وغير صحيح؛ لأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر أكثر من خطبة ورسالة وكتاب في النهج تدلّ على الخلافة والإمامة الإلهية التي خصَّ بها الله(سبحانه) أهل البيت (عليهم السلام):
منها: الخطبة المعروفة بالشقشقيّة: التي بَيَّنَ فيها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إمامته وخلافته: (أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَهَا بنُ أَبِي قُحَافَةَ، وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ، وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ...).(شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: ج1، ص151). ولا أعتقد أنَّ أحداً من القوم لم يطَّلِعْ عليها، ولكن أعْمَتْهم العصبيّة.
ومنها: قوله (عليه السلام): (لا تَخْلُو الاْرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً (مغموراً: غمره الظلم حتى غطّاه فهو لا يظهر)،...). إلى قوله (عليه السلام): (أُولئِكَ خُلَفَاءُ الله في أَرْضِهِ..)(نهج البلاغة: ج1، ص497، ط دار الكتاب اللبناني).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نَهْجُ البَلَاغَةِ وعِلْمُ الغَيبِ
السؤال: إنَّ بعض فقرات كتاب نهج البلاغة احتوت على إخبار بأحداث مستقبلية، مما يوحي بأنَّ المتكلم -أمير المؤمنين(عليه السلام)- يرى أنّه يعلم الغيب؟
الجواب: هذا الإشكال مبني على مقدمة باطلة، وهي: أنَّ علم الغيب من مختصات الله عزوجل، ولا يمكن لأحدٍ من الناس أنْ يطَّلِعَ على الغيب.
وهذا باطل بالضرورة؛ لأنَّ الآيات القرآنية والاحاديث النبوية تشهد بإمكانية ذلك، بل بوقوعه لبعض الناس من أنبياء وأولياء وغيرهم. (نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات، الشيخ احمد سلمان: ص80). فمثلاً الآية الشريفة: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن: 26-27)، تصرِّح في أنَّ الله يُطلِعَ على غيبه بعضَ من ارتضى من عباده.
وقد يقول قائل: إنَّ هذه الآية معارضة بآيات أخرى تحصر علم الغيب بالله تعالى، وتنفي حصول غيره عليه، منها قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) (الانعام: 59). فكيف يكون الجمع؟!
والجواب هو: إنَّ الإنسان مهما بلغ في الكمال لا يستطيع أنْ يطَّلِعَ على الغيب بنفسه بحيث يستغني عن الله سبحانه في ذلك، بل لا يكون العلم إلَّا بإفاضة منه عزوجل، فالذي يعلم الغيب بذاته هو الله تعالى وحده، وأمّا غيره سبحانه فيحتاج إلى أنْ يُطلعه الله تعالى على الغيب، وهذا هو معنى علم الغيب غير الاستقلالي الذي يثبته الشيعة لأئمتهم (عليهم السلام) مقابل علم الغيب الاستقلالي الذاتي الثابت لله تعالى. والى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج (نهج البلاغة، تحقيق السيد هاشم الميلاني: ص325، الخطبة128) حينما وصف الاتراك، فاعترض بعض أصحابه وقال: (لقد اُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب؟! فضحك (عليه السلام) وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ: يا أخا كلب ليس هو بعلمِ غيبٍ، وإنّما هو تعلّمٌ من ذي علمٍ).