الأب: دعني أشرح لك أوّلاً معنى التقليد..
التقليد: أن ترجع إلى فقيه لتطبق فتواه، فتفعل ما انتهى رأيه إلى فعله، وتترك ما انتهى رأيه إلى تركه، من دون تفكير، وإِعادة نظر، وتمحيص، فكأنّك وضعت عملك في رقبته -كالقلادة-محمّلاً إياه مسؤولية عملك أمام الله سبحانه.
الولد: ولماذا نقلِّد؟
الأب: عرفتَ فيما مضى أن الله سبحانه قد أمرك بواجبات ونهاك عن محرّمات، بعض ما أمرك به واضح في الشريعة تستطيع ـ ربّما ـ من خلال ما ربّتك عليه بيئتُك الملتزمة أن تشخّصه، وبعض ما نهاك عنه واضح كذلك تستطيع ـ ربّما ـ من خلال تنشئتك المحافظة أن تميّزه، والكثير الكثير ما بين هذه وتلك من الواجبات والمحرّمات، ستبقى مجهولة لك وللكثيرين من أمثالك غائبةً أو غائمة.
الأب: أنت تعرف أن الشريعة الاسلامية قد ألمَّت بجميع جوانب حياتك المختلفة، فوضعت لكل واقعة منها حكماً، فكيف ستعرف حكمك الشرعي وأنت تمارس نشاطاتك الحياتية المختلفة، كيف ستعرف أن هذا الفعل يحلّه الشارع المقدَّس فتباشره، وان هذا العمل يحرمه الشارع المقدّس فتنأَى عنه، ترى هل يمكنك أن ترجع في كل صغيرة وكبيرة اِلى الادلّة الشرعيّة لتستخرج منها حكمك الشرعي؟
الولد: ولم لا؟!!
الأب: لقد بعدت الشقة يا بني بين عصرك، وعصر التشريع، وقد أضفى هذا البعد؛ مع ضياع كثير من النصوص الشرعيّة، وتغير لغة وأساليب وأنماط التعبير، ووجود الوضّاعين ـ الذين اختلقوا أحاديث كثيرة وسربوها مع أحاديثنا المعتبرة ـ صعوبات ومعوقات عسَّرت عمليّة استخراج الحكم الشرعي.
الأب: ثم أضافتْ مشكلة وثاقة ناقلي الروايات لذلك عقدةً أخرى في طريق الساعين لاستخراج الحكم الشرعي،ثمّ لنفترض أنّك استطعت أن تتحقّق بشكل ما من وثاقة رواة النصّ وصدقهم، ودقّتهم فيما ينقلون؛ وأنّك استطعت أن تختزل الزمن لتضبط نبض ايقاع المفردات في دلالتها على معانيها، فهل ستستطيع أن تهضم علماً عميقاً، واسعاً، متشعّباً يحتاج إلى مقدّمات طويلة، وسبر أغوار عميقة، لتحصل منه بعد ذلك على ما أنت بصدد معرفته، والبحث عنه.
الولد: وكيف العمل إذاً؟!
الأب: ترجع إلى المتخصّصين في هذا العلم وهم الفقهاء، فتأخذ أحكامك منهم فتقلّدهم، وليس هذا في مجال علم الفقه فقط، بل في كل علم، لقد أفرزت الحضارة الحديثة مبدأ التخصّص في العلوم، حيث أصبح لكل علم رجاله ومتخصّصوه يُرجع إليهم عند الحاجة.
الأب: لنأخذ مثلاً لذلك من علم الطب، فلو مرضتَ ـعافاك الله ـ فماذا ستفعل؟
الولد: أراجع الطبيب، وأعرض عليه حالتي المرضيّة ليشخّص المرض وليصف لي الدواء المناسب بعد ذلك.
الأب: ولماذا لا تشخِّص أنت بنفسك مرضك وتصف الدواء؟
الولد: لستُ طبيباً.
الأب: كذلك الحال في علم الفقه، أنت محتاج إلى مراجعة الفقيه المتخصِّص لمعرفة أمر الله ونهيه، كاحتياجك إلى مراجعة الطبيب المتخصِّص لمعرفة أمرٍ طبّي ما، فكما أنّك محتاج إلى (تقليد) الطبيب في مجال اختصاصه، أنتَ محتاج إلى (تقليد) الفقيه في مجال اختصاصه، وكما أنّك ستبحث عن طبيب فاضل، عالم في مجال اختصاصه ولا سيّما إذا كان مرضك خطيراً، فأنت ملزم بالبحث عن فقيه بارع في مجال اختصاصه لتقلّده وتأخذ منه حكمك الشرعيّ.
الولد : وكيف أعرف أن هذا الرجل فقيه؟ أو أنّه أعلم الفقهاء وأفضلهم؟
الأب: دعني أسألك: كيف تعرف أن هذا الطبيب فاضل، أو أنّه أفضل الأطبّاء في مجال اختصاصه لتراجعه، وتسلّمه جسدك يفعل به ما يراه مناسباً لعلاجه؟!
الولد: أعرف ذلك من سؤال المهتمّين بشؤون الطب العارفين به، ممَّن لهم علم ومعرفة ودراية وخبرة وتجربة فيه، أو أعرفه لشهرته بين الناس وشيوع وانتشار وذيوع اسمه في هذا الحقل العلمي.
الأب: بالضبط،وكذلك تعرف الفقيه، أو الفقيه الأعلم، بأن تسأل شخصاً ملتزماً بالواجبات، وتاركاً للمحرّمات، ثقةً، تتوفّر فيه القدرة، والمعرفة، والعلم والعدالة والخبرة على تمييز المستوى العلمي للأشخاص في مجال الاختصاص، أو يشيع ويشتهر ويذيع بين الناس فقاهةُ شخص، أو أعلميته بين سائر الفقهاء، بحيث تجعلك تلك الشهرة الواسعة وذلك الذيوع والانتشار، و(الشيوع)متأكداً وواثقاً من فقاهته أو أعلميّته.
الولد: وهل هناك شروط اُخرى فيمن يجب علينا تقليده، بعد أن نبلغ مبلغ الرجال، عدا شرط الفقاهة؟
الأب: أن يكون المجتهد الذي يجب عليك تقليده: رجلاً، بالغاً، عاقلاً، مؤمناً، عادلاً، حيّاً غير ميّت، طاهر المولد ـ أي أن تكون ولادته قد تمّت وفق مقاييس وضوابط شرعيّة ـ وألَّا يكون كثير الخطأ والنسيان والغفلة.
الولد: حسناً ها أنا ذا قد بلغت مبلغ الرجال، ماذا يجب عليَّ أنْ أفعل الآن؟
الأب: تقلِّد أعلم فقهاء عصرك، وتعمل بما يفتي به في شؤونك المختلفة، في أحكام وضوئك –مثلاً- وغسلك، وتيمّمك، وصلاتك، وصومك، وخمسك، وغيرها، كما تقلّده في معاملاتك، في أحكام بيعك – مثلاً - وشرائك، وزواجك، وزراعتك،وإِجارتك، ووصيتك، وغيرها.
الولد: وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وإيمانك بالله، وأنبيائه ورسله و..
الأب: كلا.. الإيمان بالله وتوحيده، ونبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) وإمامة الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام)، والمعاد، هذه أمور لا يجوز التقليد فيها فهي من أصول الدين، بل يجب أن يعتقد كل مسلم بها اعتقاداً جازماً لا شك فيه، ولا شبهة ولا ضبابيّة ولا التواء، واصلاً إلى إيمان قاطع بالله تعالى، باحثاً عنه بجهوده، منتهياً إلى قناعة تامّة راسخة بالله لا تتزعزع.
الولد: طيّب،ألا يحق لي أنْ أقلّد فقيهاً مع وجود فقيه أعلم منه في مجال اختصاصه؟
الأب: يمكنك ذلك شرط أن لا تعلم بوجود اختلاف بين فتاوى المجتهد الذي تقليده وفتاوى الأعلم في مسائلك التي تحتاجها لتعمل بها.
الولد: لو قلّدت الأعلم، ولم تكن له فتوى في مسألة ما تخصَّني، أو كانت له فتوى ولم يسعني استعلامها؟
الأب: ترجع إلى الأعلم من بعده أي من يتلوه في العلم من الفقهاء.
الولد: وإذا كان الباقون متساوين في العلم فماذا افعل؟
الأب: ترجع إلى من كان أورع من غيره، أي أكثر تثبتاً وحيطة في الرأي الذي يتخذه والفتوى التي يصدرها.
الولد: وإذا لم يكن بعضهم أورع من بعض؟
الأب: يمكنك أن تطبق عملك على فتوى أيّ منهم إلَّا في بعض الحالات المعينة حيث يجب فيها أنْ تعمل بالاحتياط، ولا يسعني في هذا المقام أنْ أشرحها لك.
الولد: حسناً، أستطيع حين أراجع الطبيب أن أعرف رأيه في حالتي الصحّية لو استدعت صحّتي مراجعته، فكيف أستطيع أن أعرف فتوى مقلَّدي في مسائلي الشرعية؟ كيف أصل إلى فتاواه لأطبِّقها؟هل أُراجعه في كل مسألة؟
الأب: تستطيع معرفة فتاواه بسؤاله مباشرة عنها، أو بسؤال من تثق بنقله ومعرفته وأمانته في نقل تلك الفتاوى، أو بمراجعة كتبه الفقهية كرسالته العملية مع الاطمئنان بصحّتها.
الولد: إذاً أطلب منك وانت الثقة الأمين أن تعينني على معرفة فتاوى مقلَّدي، فهل نبدأ بالصلاة؟
الأب: نبدأ بالصلاة غير أنها تتطلّب طهارة الإنسان من كل ما يدنِّس طهارته.
الولد: ما الذي يدنِّس طهارة الإنسان؟
الأب: تدنس طهارة الإنسان:
1- أُمور مادية تقع في نطاق عمل الحواس كالنجاسات.
2- وأُمور معنويّة غير مدركة بالحواس لو حدثت بأحد أسبابها من جنابة أو حيض أو استحاضة أو نفاس أو مسِّ ميّت أو نوم أو خروج بول أو غائط أو ريح، للزم إزالتها بالوضوء أو الغسل أو التيمم.
وتستدعينا هيكليّة البحث وصولاً إلى الصلاة أن نبدأ حوارنا بـ(النجاسات)، فنتعرّف عليها أوّلاً، ثم نتعرّف بعد ذلك على (مطهراتها)، ثم نتحاور بما لو (حدث) لوجب (غسله بالوضوء) أو (غسلُه بالغسل) أو (مسحه بالتيمّم) سواء أحدث من بول أم غائط أم ريح أم نوم أم من جنابة أو حيض أو استحاضة أو نفاس أو مس ميت.