حوارية التكليف

الولد: ها أنذا اليوم أكملت السنة الخامسة عشرة من عمري، وسينقلني هذا اليوم من مرحلة سلفت ويضعني على أعتاب مرحلة أخرى بدأت، ‎‎‎‎‎‎‎‎‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏استيقظت مبكراً كعادتي كل يوم، وما أنْ أنهيت واجباتي اليومية المعتادة حتى أبصرتُ على وجه أبي شيئاً ما مختلفاً عما كنت آلفه منه كل يوم، شيئاً ما جعلني اُخمن أنَّ أمراً يخصّني بات يراوده ويشغله.‏

الأب: اليوم يا بني ودّعْتَ مرحلة سلفت من عمرك، واستقبلت مرحلة جديدة بدأت...‏‏ اليوم أصبحتَ في نظر المشرع الإسلامي رجلاً تام الأهلية لأنَّ تُكلَّف..اليوم مَنَّ اللهُ عليك فخاطبك بالتكليف، وتلطّف فأمرك ونهاك.

الولد: عفواً لم أفهم قصدك كيف يمنّ اللهُ عليَّ فيأمرني؟ أيكون الأمر مِنَّة؟

الأب: دعني أوضح لك الأمر بمثال: أنت الآن طالب في المدرسة، تقف مع زملائك، بينكم الذكي، والمجدّ،.. يمرّ السيد المدير ويتطلّع إِليك برضى أول الأمر، ثم يزفّ إِليك ـ مبتسماً ‌ـ بشرى انتقالك لمرحلةٍ طالما حلمْتَ بها، معترفاً لك من خلال ذلك بأهليتك التامّة لمرحلتك الجديدة، متوجهاً إِليك مميّزاً لك من بين زملائك بأمر ما ينمُّ عن اعترافٍ بأهليتك..‏ ألا تشعر يومئذٍ باعتزاز من نوع خاص لأمره، وحبّ لما أمرك به؟‏!!

كل ذلك والآمر مدير مدرستك، فكيف سيكون شعورك لو كان الآمر هو السيد المدير العام؟! بل كيف سيكون الحال لو كان الآمر هو السيد المفتش العام؟!كيف سيكون شعورك لو كان الآمر..؟!!

الولد: واستمرّ أبي يرتقي بالآمر المخاطب رتبة رتبة، ومع كل رتبة يرتقيها يتجلّى لي أكثر فأكثر شيء ما كان خافياً عليَّ من قبل..كما لو أني أفقتُ للتوِّ من سباتٍ عميق،وما أنْ وصلَ أبي إلى أمر الله عزّ وجلّ وخطابه إليَّ، وتكليفه إِيايَ حتى صعقتُ،‏ الله يخاطبني أنا... يأمرني أنا!!‏

الأب: نعم يا بني.. الله يخاطبك أنت ابن خمس عشرة سنة.. ويكلفك أنت ابن خمس عشرة سنة.. ويأمرك أنت.. وينهاك أنت..‏‏

الولد: هل أستحق أنا كل هذا التكريم؟!! خالق الخلق يشرِّفني فيكلّفني، جبار السموات والأرض يتلطّف فيأمرني وينهاني.. ما أحلى يومي هذا، وما أجمل سنتي هذه..!!

الأب: عليك يا بني أن تطيع ما أمرك به خالقُكَ.

الولد: سأسعى يا أبي بشغفٍ إلى تطبيق تكاليفه وأحكامه الحبيبة.‏

الولد: ولكن ما هي هذه التكاليف التي كلّفني بها الله يا أبي؟

الأب: الأحكام الشّرعية على خمسة أنحاء: واجبات ومحرمات ومستحبّات ومكروهات ومباحات.

الولد: وما معنى هذه المصطلحات؟

الأب: كلُّ ما تحتّم عليك فعله فهو من الواجبات كالصلاة، والصوم، والخمس، وغيرها..‏وكل ما تحتّم عليك تركه فهو من المحرمات كشرب الخمر، والزّنا، والسرقة، والكذب، وغيرها..وكل ما حسن فعله من دون إِلزام وتثاب عليه إنْ كانَ بقصد القربة فهو من المستحبّات، كالصدقة على الفقير، وغيرها..‏وكل ما حسن تركه والابتعاد عنه من دون إلزام وتثاب على تركه إنْ كان بقصد القربة فهو من المكروهات، كالغلاء في المهر، وغيرها..‏ أمّا ما تُرِكَ لك حريّة الاختيار فيه أنْ تفعله أو تتركه فهو من المباحات كالأكل، والشرب، والنوم، وغيرها.‏

الولد: وكيف لي أن أفرز الواجبات عن المستحبات، والمحرّمات عن المكروهات؟ كيف أعرف أن هذا واجب فأفعله، وهذا حرام فأتركه؟

الأب:ستميّز الواجبات عن المحرّمات، والمستحبّات من المكروهات إِذا استعرضْ تَكتب علم الفقه الإسلامي، وستجد أنَّ لبعضها أركاناً وأجزاءً وشرائط، ولبعضها حركات خاصّة يجب أن تؤدّى بها، ولبعضها.. ولبعضها..‏راجع كتب الفقه الإسلامي فستكتشف بعد ذلك أنّه علم واسع، كُتِبَتْ فيه مئات المجلّدات، وأشبع العلماء مسائله بحثاً، وتمحيصاً، بعمق قلَّ نظيره في علوم إِنسانية أخرى.

الولد: وهل يجب عليَّ أن ألمَّ بكل هذه الكتب لأعرف ما يجب عليَّ أنْ أفعله؟

الأب: بل يكفيك أن تراجع أخصرها وأيسرها على الفهم، وستجد أنّها قُسِّمت إلى قسمين:قسم خاص بالعبادات، وقسم خاص بالمعاملات.

الولد: وما العبادات؟ وما المعاملات؟

الأب: تمهَّل قليلاً، وراجع كتب الفقه الإسلامي، وستعرف تدريجياً ما أنت الآن بصدد معرفته.

الولد: رحت أعدو إلى المكتبة، علّني أعثرُ على كتب الفقه الإسلامي هذه وأقرؤها، فوجدتها وفتحت الكتاب ووجدت نفسي أقرأ كثيراً، ولا أفهم شيئاً مما قرأت.

الأب: لقد مررت بتجربة شبيهة بتجربتكَ، عندما كنت في حدود سِنِّكَ، ‏ لقد قرأت كتب الفقه فلم أفهم منها شيئاً، مثلك تماماً.. غير أنّي لم أمتلك شجاعتك فأعترف بعجزي عن فهمها، لقد حالت تربيتي المحافظة، وحَجَزَ حيائي الشديد، بيني وبين سؤال أبي عن بعض خصوصيات مرحلة المراهقة ثمّ الرجولة، فلم أَكُن أُدرك أن البلوغ قد يتحقق بغير العمر الزمني المحدَّد له.

الولد -مقاطعاً أباه-: وهل يتحقّق البلوغ بغير ذلك؟

الأب: نعم يا بني، يتحقق البلوغ في الذكر إذا توفّرت إحدى علامات ثلاث:

أوّلها: أن ينهي خمس عشرة سنة قمريّة(هجرية) من عمره-تقريباً أربع عشرة سنة ميلادية وستة أشهر وعشرون يوماً-.‏

ثانيها: أنْ يخرج السائل المنوي منه سواء خرج باتِّصال جنسي أم باحتلام أم بغيرهما.

ثالثها: أن ينبت الشعر الخشن على العانة، أقول الشعر الخشن المشابه لشعر الرأس لأستثني بذلك الشعر الناعم الذي يغطّي ـ عادة ـ أكثر مناطق الجسم كاليدين مثلاً.

الولد: وما معنى العانة؟

الأب: العانة: منطقة تقع أسفل البطن فوق نقطة اتّصال العضو التناسلي بجدار البطن مباشرة.

الولد:عرفت الآن علامات البلوغ للذكر يا أبي، فما هي علامات البلوغ في الأنثى؟

الأب: يتحقق البلوغ في الأنثى إذا أنْهَتْ تسع سنين قمرية(هجرية) من عمرها -تقريباً ثمان سنوات ميلادية وثمانية أشهر وخمسة وعشرون يوماً-.

الولد: بما أنَّهُ عجزتُ عن استيعاب كتب الفقه، فاسمح لي أن أقترح عليك أن تعقد لي جلسات تتناول فيها بالشرح والتبسيط كل ما عسر عليَّ فهمه، لأقوم بأداء التكاليف الشرعية بشكل صحيح كما شرعها الله سبحانه لي، ويا حبّذا لو كانت جلساتنا تنهج نهج الحوار والمساءلة.

الأب: كما تحب.

الولد: ولكن بماذا سنبدأ حواريّتنا الأولى يا أبي؟

الأب: سنبدؤها بـ (التقليد) فهو الأساس الذي سيحدّد لنا شكل وملامح ما سنطبِّقه من فقهنا.